سورية في مركز صراع دولي لتشكيل نظام عالمي جديد

تاريخ الإضافة الأحد 19 حزيران 2011 - 6:51 ص    عدد الزيارات 831    التعليقات 0

        

سورية في مركز صراع دولي لتشكيل نظام عالمي جديد
السبت, 18 يونيو 2011
عماد فوزي شُعيبي *

يتجاوز الحراك الإقليمي – الدولي حدود الضغط السياسي على سورية، وصولاً إلى صراع دولي، في محاولة ثانية (بعد محاولة 2001 - 2006) لتشكيل نظام سياسي عالمي جديد.

المشهد الدولي أكثر تعقيداً مما يبدو، فبعد أن حاولت الولايات المتحدة منذ عام 2001 وحتى عام 2006 تشكيل نظام دولي، أحادي القطب بدت نُذُرُه منذ سقوط جدار برلين فسقوط الاتحاد السوفياتي حيث تمنعت الولايات المتحدة عن تمويل قطاعات وإدارات في الأمم المتحدة وحرمت الدول الأربع الدائمة العضوية من حق النقض (الفيتو)، وصولاً إلى غزو أفغانستان فالعراق، فارضة قاعدة ازدراء ألمانيا فمعاقبة فرنسا وإدارة الظهر لروسيا عام 2003 فور سقوط بغداد، الأمر الذي حدا بباريس إلى تغيير موقفها معلنة تسليم مسؤولياتها في حلف شمال الأطلسي إلى قائد المنطقة الوسطى الأميركي، بمعنى التخلي عن المسؤوليات – وبالتالي السياسات – لمصلحة المشروع الأميركي المنفرد في المنطقة لتشكيل نظام عالمي بقطب واحد تدور حوله القوى العظمى، ولو إلى حين.

كان واضحاً أن بريطانيا التي فضلت أن تشتغل (مستشاراً!) للولايات المتحدة كانت تعلم أن الحراك العسكري – السياسي الاستراتيجي في ساحة عمليات الانتقال، من نظام عالمي إلى نظام عالمي آخر، هي الإمبراطورية البريطانية السابقة الممتدة من أفغانستان فالعراق مروراً بإيران إلى السودان، وهذا يحتاج إلى (مستشار!) يعرف طبيعة المنطقة وهو ما قامت به لندن بامتياز في العراق، خصوصاً في جنوبه. لهذا، فإن تسليم باريس بالدور الأميركي كان إكمالاً لحراك الأميركيين في ساحة العمليات التي كان ينقصها شرق المتوسط المحسوب في الناتو على فرنسا. الحراك الموقت الذي سمى الولايات المتحدة الأميركية قطباً وحيداً منذ عام 1991 إلى عام 2006، توقف عندما انتصرت المقاومة في لبنان على دحرجة عجلات المشروع الأميركي الذي أعلنه ريتشارد بيرل بوضوح: «نبدأ من العراق ثم لبنان فسورية، فالسعودية، فالجائزة الكبرى مصر». لم يكن لهذا النظام الدولي أن يتبلور أحادي القطبية لتناقض ذلك مع طبيعة النظام الاقتصادي – السياسي العالمي، فالاقتصاد متعدد الجنسيات (أي لا يمكن أن يكون أحادياً)، وثمة دول عظمى لا تتخلى عن مكانتها ودورها، وهي، إن التحقت بالسياسة الأميركية فذلك إلى حين، كما أن ألمانيا كثاني أقوى اقتصاد عالمي تحتاج إلى أن تخرج من حالة تعليق دورها كدولة عظمى منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، (وهو ما يفسر إلى حدّ كبير دورها المناهض لسورية في هذا الوقت بالذات).

مرّ العالم بحالة اللاقطبية منذ 2006 - 2011 وبات واضحاً أنه إذا كان ثمة تعذر في تشكيل نظام عالمي أحادي القطبية من عام 1991 وحتى 2006 واستمراره، فإن حالة اللاقطبية لا يمكن أن تستمر، بل ثمة استحالة أن تكون نظاماً عالمياً. لهذا، بدا أن اتفاقاً دولياً تبلور نهاية عام 2010 على اقتسام دولي للنفوذ على شكل نظام قد يكون بمحور (وليس بقطب) يضم أقطاباً عدة أبرزها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، هو المحور الذي بدأنا نراه منذ اندلاع الثورة في كل من تونس ومصر، إلا أن سرعة ما حدث في ليبيا من تسليم أميركي لقيادة فرنسية أولاً وبريطانية ثانياً وتنحٍّ أميركي عن القيادة المباشرة، يفيد أن ثمة ما يتجاوز إدارة آنية للصراع إلى حلف دولي يخطط (ليالطا - 2) في المنطقة يتبلور على أساسها نظام عالمي بمحور متعدد الأقطاب، تظهر أوروبا في مقدم تنفيذه العملياتي (باعتبار كل تشكيل عالمي يحتاج إلى فعل عسكري يسبقه) وتتراجع الولايات المتحدة إلى الخلف درجة واحدة، بحيث يكون الفعل المباشر أوروبياً (فرنسي – بريطاني – ألماني) وتكون القسمة موزعة بامتياز مع الطرف الأميركي الذي تعذرت صورته النمطية وأساليبه غير الخبيرة بالمنطقة عن استحداث إنجاز فيها، يعيد توزيع الثروة ويفسح في المجال أمام بلورة نظام عالمي جديد.

من الواضح أن سورية في صلب الاستراتيجية المكونة لهذا النظام العالمي لأسباب عدة:

1 - أن دمشق تجرأت على أن تكون قوة تعمل خارج مفاعيل الاستراتيجيات العالمية.

2 - أنها بالغت الجرأة بوقف المشروع الأميركي بحرب عام 2006.

3 - أن مشروعاً تحاول أن تقيمه إقليمياً، بامتدادات عالمية هو مشروع «البحار الخمسة» يتجاوز أية اعتبارات في  التشكيلات الدولية، ويخرج إسرائيل من أي مشهد سواء في حالة (اللاحرب واللاسلم) أو في حالة السلم إن تحققت، وهذه تعتبر من أكبر الكبائر! وتكاد تذكّر الغرب بمشروعي محمد علي وعبدالناصر. لهذا كان لا بد من معاقبة سورية بتذريرها إلى ذرات طائفية قبل الإجهاز عليها.

4 - أن دمشق استطاعت أن توقف المشروع الأميركي إلى حين، والمتمثل في:

أ - إلغاء مبدأ السيادة واستبداله بمبدأ التدخل الإنساني.

ب - إلغاء مبدأ المقاومة واستبداله بمبدأ التفاوض السياسي المحض. وهما النموذج الأساس في استراتيجية الولايات المتحدة الجديدة التي أعلنت منذ أيلول (سبتمبر) 2002 وهي استراتيجية لم تلغها إدارة أوباما بل لا تزال تعمل على أساسها ولكن بطرق مختلفة، لم يعتدها العقل التحليلي السياسي الســائد لأنها ليست من النوع النمطي، لكن سرعة التحرك صوب ليبيا وسرعة استثمار الأوضاع في سورية وبتنسيق واضح متناغم سياسياً وإعلامياً ولوجيستياً، تعكس أن ثمة مشروعاً ولغة عالمية جديدة يجب التكيف مع أدواتهما الجديدة.

5 - أن واقع استخراج النفط والغاز من ساحل شرق المتوسط والذي تُرك لهذا الجيل وابتدأته إسرائيل، يقتضي ترتيبات دولية مشابهة لما حدث في دول النفط مطلع القرن العشرين، ولما كانت إسرائيل ابتدأت بالاستخراج وليس بالتنقيب فهذا يعني أن منطقة شرق المتوسط قد تجاوزت وضعها الجيو - سياسي المهم إلى وضع اقتصادي عالمي يتصل باستخراج النفط ووصل شبكة أنابيب للنفط وللغاز تنقل موارد الطاقة للولايات المتحدة والغرب، الذي يلهث فرنسياً وبريطانياً وألمانياً (وقد لا ننسى البرتغال التي تريد أن تذكر بدورها الاستعماري أيضاً) من أجل قسمة الكعكة على أساس تمتين أوضاع سياسية فيها على أساس جغرافيا سياسية جديدة أو على الأقل أنظمة موالية، وهذا يترافق مع تصفية القضية الفلسطينية. وهنا تقع سورية في عين العاصفة.

مشهد يصعب أن نتخيل ابتعاده عن التأثير المباشر أو غير المباشر في أحداث سورية، لأن التأثير معلن، سواء بمبدأ التدخل الإنساني الذي تلح عليه أوروبا وأميركا أو بمبدأ التخلي عن المقاومة الذي لم تتورع مساعدة وزير الدفاع الأميركية عن إعلانه ومع سلسلة المحافظين الجدد وجزء من مجلس ســـياسات الدفاع، وهو الذي لم يُحل على رغم استبدال الديموقراطيين بالجمهوريين.

دمشق في عين العاصفة وأحداثها الداخلية تستثمر أيما استثمار، ولعل ما قاله إدوارد دجيرجيان السفير الأميركي الأسبق في دمشق من أن أقصى ما يمكن حصوله إذا انهار الوضع في سورية هو دويلات متقاتلة طالبانياً! لا يبتعد عن نظرية العماء الخلاق Creative Chaos التي اعتمدها المحافظون الجدد كبديل من الدولة القومية والمشروع القومي العربي، وهو ما يبدو أن نُذره والعمل على تسعيره جزء لا يتجزأ من الحملة الغربية على دمشق.

بين هذا وذاك، ثمة مشهد معقد، هو لعبة حافة الهاوية تلعبها الأطراف بعلنية وحزم لم نشهد مثلهما؛ والرائز هو فزع إسرائيل ومصالح إسرائيل وإنهاء الصراع معها تمهيداً لمنطقة سلام... اقتصادي. هذا الوضع هو - أيضاً - ما يقف وراء تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، حيث إن مكاسرة الإرادات الدولية الإقليمية لم تسفر عن إطلاق الدخان الأبيض بعد، وحيث بات واضحاً أن يالطا - 2 لم تتم بعد.

مشهد يقارب مشهد عام 1956، لحظة إعادة تقاسم النفوذ على قاعدة الحرب الباردة تجاه قضية السويس. إنه في حالتنا هذه قد لا يكون إنذاراً مُعلناً لأن التاريخ قد لا يكرر نفسه متأرجحاً بين المأساة والمهزلة وصولاً إلى مأساة أكثر معاناة. فالروس يعرفون أن يالطا - 2 تتشكل في الرواق الخلفي الأوروبي - الأميركي على أسس تستبعد المصلحة العليا لروسيا إن لجهة النشر الصاروخي في بولندا أو لجهة السماح بتشكيل (ناتو آخر! من بولندا وتشيخيا وســلوفاكيا وهنغاريا)، وهو ما يقيم ألمانيا ولا يُقعدها أيضاً، أو لجهة محاولة الضغط لتحويل سورية إلى شظايا لحساب استقرار ما بعد (الفوضى العمياء «العماء» الخلاقة)، هناك حيث يجب أن تكون سلسلة الدول العربية موحدة الهوية! في سياق النسخة النمطية للنموذج الأميركي المقبول في المنطقة.

وكان من اللافت أن من المــرات القليلة التي يختار فيها وزير الخارجية الروسي يوم عطلة الأحد ليدلي بخطاب  رسمي، من الواضح أن هنالك شيئاً له ثقل خاص جداً بالنسبة لموسكو قد دفع للتحدث العلني وفي شكل ملح. الاستـــفزاز كان في تبين وجود طرّاد صورايخ أميركي في البحر الأسود لإجراء تدريبات بحرية مع أوكرانيا. طرّاد «يو إس إس مونتيري» المجهز بنظام دفاع أيه إي جي آي إس (AEGIS) الجوي يشارك في تدريبات أميركية – أوكرانية التي تدعى نسائم البحر 2011.

فالمشهد اليوم معقد على مستوى العملاقين الروسي والأميركي، إذ ثمة تصعيد للقيادة الأميركية بتحريك وحدة الهجوم الأساسية لتجمع الدفاع الصاروخي الإقليمي الذي شكله الناتو في المنطقة من البحر الأبيض المتوسط إلى الشرق.

صحيح أن وزارة الخارجية الأميركية أعلنت تفسيراً بأن الطرّاد مونتيري أُرسل إلى المياه الأوروبية كجزء من النهج التكيّفي المرحلي للإدارة الأميركية في بناء الجزء الخاص بأوروبا فيما يتعلق بالدرع الصـــاروخية العـــالمية، والـــمزاعم أنه انتشار لمجموعة سفن أميركية حربية في البحر المتوسط والبحر الأدرياتيكي وبحر إيجه وذلك لحماية جنوب أوروبا من هجمات صاروخية محتملة، إلا أن هذا لم يكن صحيحاً، وهو ما ينعكس على الصراع المحتدم بين الدولتين بخصوص سورية، ذلك أن شرق المتوسط في لجة الصراع، وسورية في مركزه، ولعل تصريحات روسيا بخصوص التحول نحو الحرب الباردة بسبب الدرع الصاروخية المزمع نشرها في بولندا مترافقاً مع التشدد تجاه عدم تدويل الوضع الداخلي السوري، متلازمان، ما يبين أن موسكو تتفهم بأن أحد الأسباب وراء الدفع نحو تغيير النظام في ســـورية هو إلحاق الضرر بها وإلزامها بأن تبقى دولة إقليمية صغيرة أو متورمة لا فرق، وأن يكون لها مكان في يالطا - 2، حيث إن كل ما سبق إضافة إلى إنــشاء قواعد أميركية عسكرية في رومانيا وظهور السفن الحربية الأميركية في منطقة البحر الأسود يحكم دائرة الحصار أكثر فأكثر على موسكو، وهو ما يلزمها بدعم شديد لدمشق.

ولعلنا نتفق مع ما كتب المحلل الاستراتيجي السفير م.ك.بهادركومار والذي كان يشغل منصباً ديبلوماسياً في وزارة الخارجية الهندية، وقد قام بمهام أوكلت إليه في كل من الاتحاد السوفياتي وكوريا الجنوبية وسريلانكا وألمانيا وأفغانستان وباكستان وأوزبكستان والكويت وتركيا، من أن «مأزق موسكو هو في كونها لا تستطيع أن تفسر وفي شكل معلن وقوفها مع الأجندة الجيوبوليتيكية الأميركية حيال سورية، فمثل هذا التفسير قد يكشف فراغ إعادة التشكيل المنظومي الدولي بين روسيا والولايات المتحدة والذي دأب الكرملن برئاسة ديميتري مدفيديف على العمل من أجله». ويتابع القول: «من المؤكد أن الخناق سيضيق حول الرئيس الأسد، والمقصود هنا شخصه بالذات أي أنه قد غدا هو المستهدف وفق تعبيره».

وبعبارة بسيطة، تريد الولايات المتحدة من روسيا أن تغادر سورية ليتعامل معها الغرب وحده. ويكتب: «ومن دون أدنى شك، فإن الكثير من وكالات الاستخبارات متورط بعمق في الموضوع السوري. وبادئ ذي بدء، أصبح تغيير النظام في سورية أمراً حاسماً جداً من أجل فك عزلة إسرائيل الإقليمية»، وإن مجرى الأحداث في سورية سيؤثر بالتأكيد وفي شكل عميق في إعادة تشكيل العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. ويبدو أن إدارة أوباما قامت بواجبها واستنتجت أن الأمر يستحق المغامرة من أجل تأكيد أمن إسرائيل. «فالسفن الحربية التي أبحرت إلى البحر الأسود تحمل رسالة واضحة لروسيا بقبول كونها مجرد ظل باهت للاتحاد السوفياتي السابق».

هذا الصراع تحاول أن تقتنصه فرنسا وتأخذ دوراً في المعادلة الإقليمية، إن بتزعمها الهجوم على ليبيا أو تناول سورية في مجلس الأمن وعبر وسائلها الإعلامية: فرانس 24»، أو باللهاث وراء الإعلان الفرنسي عن اقتراح لعقد مؤتمر للسلام مطلع تموز (يوليو)، وهو ما طوته واشنطن وتل أبيب بسرعة وبقيت باريس – كالعادة - باهتة !

تحاول تركيا، التي رسمت وسوقت «المشكلات صفر» لتنخرط في أهم المشكلات وتتورط، أن تستعيد دوراً عثمانياً انتهى مع الحرب العالمية الأولى أو لتدخل بدور (سُنويّ!) مزعوم في لعبة الدخول للاتحاد الأوروبي على طريقة المنفذ الجيد للدور اللازم لها كدولة جوار، إلا أن مخاطر هذا لا تُعقد على سورية فحسب بل على تركيا نفسها التي يمكن أن تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فبدلاً من أن تدخل كدولة واحدة في  القسمة الدولية ستكون القسمة على حسابها، فلا أحد في الغرب يحيي ميتاً! والغريب أن أنقرة التي تحولت من دولة باهتة تستجدي الدخول في الاتحاد الأوروبي ظنت للحظة أنها يمكن أن تكون طرفاً في قسمة دولية في يالطا - 2، عبر ممارسة دور الوصي ثم المنخرط في الوضع السوري، فيما أن وجهها الجديد لم يكن إلا عبر سورية وهو لا يمكن أن يكون على حساب سورية، الدرس الذي نعتقد أن داود أوغلو لم يتعلمه بعد.

بقي الملف النووي السوري المزعوم مرشحاً للتصاعد، لكن سورية تمتلك ورقة مهمة في مجلس الأمن تتمثل بالورقة المكتوبة بالحبر الأزرق التي صدرتها جاهزة للتصويت في المجلس وقد أجلتها دمشق في سياق تثاقلها المعتاد منعاً لمواجهة وتبادلاً للمواقف على المستوى الديبلوماسي بلغة «الإشارات»، ومجرد أن تقوم دمشق بمواجهة مشروع إحالة الملف النووي السوري المزعوم بورقتها التي تنادي بإزالة أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها الأسلحة النووية، فإن واشنطن والغرب سيتوقفان درءاً لما سيتجاوز الإحراج إلى الانكشاف السياسي.

بقي الملف الأخير في جعبة مكاسرة الإرادات وهو توقع استصدار القرار الاتهامي (في نسخته المعدلة الثالثة بإضافاتها وتعديلاتها التي لطالما سُربت عن إضافة اتهامات لسوريين إلى حزب الله) بخصوص قضية مقتل رفيق الحريري، مطلع تموز، وهي العصا التي تُرفع بين الحين والآخر لمقايضتها (بجزرة) افتراضية تتمثل بتعليق هذا الاتهام، أو بجزرة حقيقية تنبلج إقصاءً للسوريين من الملف أو طياً له بأكمله، في صفقة تتصل بالسلام وتغيير السياسات الإقليمية، والأهم أنها صفقة ليالطا - 2 لا يبدو أن صورتها الأخيرة قد تبلورت بعد؛ حيث إن أوروبا وأميركا تريدان الانفراد بقسمتها ليس فقط على حساب موسكو إنما على حساب دول عصية على التجاوز كسورية، ليس فقط لاعتبارات مكانتها الإقليمية إنما لاعتبارات (القوة المتعالية «الترانسيدانتالية») الأخرى أو «الردع»، وهو ما يقف – فعلياً - وراء تعذر الحرب الإسرائيلية على سورية منذ ثلاثة عقود، وتعذر إسقاط النظام السوري بعمل عسكري دولياً، وهو ما له مؤشرات إلى ما يتجاوز الحسابات الكلاسيكية، وهو ما أسس – لاحقاً - لامتناع ليس الحرب فقط إنما أيضاً لامتناع القفز الإقليمي والدولي فوق سورية، واقتصار كل ما حدث عليها وحولها، على الضغط والمناوشات. وليس أدل على هذا إلا أن شروط كولن باول في أيار (مايو) 2003 والتهديد باجتياح سورية بعد العراق، في أبلغ ذروة قوة المحافظين الجدد، لم تعرف القدرة على الانتقال إلى التنفيذ، لأن صورة احتمال الحرب مع سورية ليست كنظيرتها على عراق - ما بعد هانز بليكس.

أما أن يحاول البعض اليوم العبث بمسلمات قواعد اللعبة، فإنه لا يغامر بالمنطقة فحسب بما فيها إسرائيل، إنما يغامر بأمن العالم كله، إذا ما وضعت سورية أمام خيار «شمشون»، لأن انفراط عقد قواعد اللعبة والعبث بالاستقرار في هذه المنطقة سيصيب العالم، خصوصاً الجوار الأوروبي.

إذاً، هي لعبة عضّ الأصابع وسياسة حافة الهاوية، ومن ثم لعبة النزول إلى الهاوية (إن أحبوا)، وهي هواية السوريين ولعبتهم المُفضلة، لكنها اللعبة التي لا تحتاج فقط إلى عقلانية الحسابات السورية التي تعمل على الفويرقات، لا على الفروق في اللحظة الحرجة، لكنها تحتاج أيضاً إلى الحسابات نفسها لدى الطرف أو الأطراف الأخرى، لئلا تتحول اللاعقلانية إلى مثيلتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية! فالمفروض أن أوروبا قد راكمت من الإرث العقلاني الكثير ما يجعل حساباتها أدق من حسابات الأميركيين الحديثي العهد بالسياسة والوجود، وهم لم يجربوا ويلات الحروب كما فعلت أوروبا ودفعت من فواتير. والمؤكد أن إسرائيل، على رغم كل حماقات وزير خارجيتها، تتحسس خطورة اللعبة كما لا يفعل الكثيرون، وإذا كانت أوروبا تبعث طلباً ليالطا جديدة مدعية عدم الحساب الجيد لموازين القوى، فإن ذعر إسرائيل لا بد أنه سيصحح ما يحيد في سمت اللعبة، أو أن عليها أن تكون أول من يدفع الثمن، في حرب ستكون دولية - إقليمية كما لم نشهد ولا تعرفه ذاكرتنا النمطية.

وإذا كانت سورية قبلت التدافع مع فرنسا وأميركا في حافة الهاوية فإن دمشق بدأت تدخل الجميع في لعبة عمق الهاوية حيث إن المكاسرة يمكن أن  تودي بالجميع. هي لعبة شديدة الخطر على الجميع لإرساء قاعدة أن اللعب على الاستقرار السوري سيودي باستقرار الجميع.

معيار اللعبة هنا ليـــس فقط الأعصاب، إنما إدراك معاملات القوة (والردع) اللذين لا يسمحان بالقفز فوق دمشـــق إلا حينما يصبح العالم... مجنوناً. والنتيجة، إما مقاسمة إرادات أو انهيار الجميع.

تعلم السوريون قضم الوقت وربح الزمن وتفننوا في سياسة حافة الهاوية وعض الأصابع، لكنهم يجربون لعبة عمق الهاوية للمرة الأولى، معتمدين على أن الردع قائم وممكن وأن نفَسهم أطولُ من نفس الآخرين وأنهم حين يودون أن يُوجعوا فإن أدواتهم مرٌّ مُذاقها كطعم العلقم.

لعبة خطرة ولا ريب، لكنها لعبة (الوجود... والعدم) ليس فقط بالنسبة لسورية إنما أيضاً للإقليم... وربما للعالم.

* كاتب سوري
 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 154,598,442

عدد الزوار: 6,956,829

المتواجدون الآن: 70