الموارنة في دولة فخر الدين([)

تاريخ الإضافة الأحد 12 حزيران 2011 - 7:22 ص    عدد الزيارات 1344    التعليقات 0

        

 
كمال الصليبي
ساء حال الموارنة بزوال الإمارة العسافية، إذ أبغضهم يوسف سيفا، على ما يبدو، وأخذ يسلّط الشيعة عليهم. وكانت عشيرة آل حمادة الشيعية قد نزحت من بلاد اذربيجان الى قمهز، في جبة المنيطرة، قبيل الفتح العثماني، على اثر افتتاح العثمانيين لتبريز عام 1514، فأوكل ابن سيفا تدبير كسروان وغيرها من المناطق المارونية الى رؤساء هذه العشيرة. ونفر الموارنة من حكم ابن سيفا وآل حمادة، فحولوا أنظارهم جنوباً الى بلاد الشوف، متأملين العطف والعناية من امرائها المعنيين.
وكان الأمير فخر الدين المعني قد خلف والده قرقماز في زعامة دروز الشوف عام 1584 وهو بعد حدث. فأتته الظروف وامتدت سيطرته عام 1591 حتى شملت الغرب والجرد والمتن ومدينة صيدا بالإضافة الى الشوف. وكان الشوف يعتبر قديماً جبل صيدا، والغرب والجرد والمتن وكسروان جبل بيروت، فبقي لفخر الدين أن يستولي على مدينة بيروت ومنطقة كسروان حتى تصبح جميع بلاد صيدا وبيروت في حوزته. وحذا فخر الدين في سياسته حذو الأمراء العسافيين واحاط نفسه بمستشارين ومدبرين من الموارنة، وعلى رأسهم آل الخازن، من أعيان كسروان. فأمن الموارنة، كنيسة وشعباً، للأمير الدرزي، وأصبحوا انصاراً له حيثما كانوا. ولم يطل الوقت حتى تمكن فخر الدين من طرد يوسف سيفا من بيروت عام 1598، والاستيلاء على كسروان نهائياً عام 1605، فصار له قاعدة حكم في بلاد الموارنة.
وكان الأمير فخر الدين بحاجة الى الدعامة القوية التي أمنها له الموارنة. ذلك أن الدروز لم يقفوا صفاً واحداً الى جانبه، بل كان منهم من ناوأه أشد المناوأة. ففي الشوف، قاعدة آل معن، كان الدروز منقسمين فريقين: فريقاً مؤيداً للأمير يتزعمه الشيخ يزبك بن عبد العفيف، وفريقاً مناوئاً له يتزعمه الشيخ جنبلاط. أما في الغرب والجرد والمتن، فكان الدروز القيسيون، وعلى رأسهم آل بحتر التنوخيون، انصاراً للأمير، بينما كان الدروز اليمنيون، وعلى رأسهم أمراء الشويفات، اخصامه. وكان الفريق اليمني ينصاع لأوامر فخر الدين كملتزم يمثل السلطة العثمانية في المناطق الدرزية، الا أنه لم يعترف للأمير بزعامة وراثية على جميع هذه المناطق. إذ كانت زعامة آل معن وراثية فقط في الشوف. أما في الغرب والجرد والمتن، فكانت الزعامة وراثية متنازعة بين الأمراء البحتريين القيسيين، أخوال فخر الدين، وأمراء الشويفات اليمنيين. وكان التطاحن بين القيسية واليمنية في هذه المناطق الثلاث منذ الفتح العثماني قد أضعف الفريقين، فتمكن فخر الدين، بمساعدة الفريق القيسي، من ضمها الى إمارته.
ويبدو أن فخر الدين جدّ منذ وقت مبكر في تقوية مركزه في المـناطق الدرزية، فأخذ يشجع أنصاره الموارنة على النزوح الى هذه المناطق. وكان الأمير شديد الاهتمام بانتاج الحرير، فساعد نزوح الموارنة الى المناطق الدرزية على تقوية هذا الانتاج، إذ استقر الفلاحون منهم في المزارع حيث اشتغلوا في تربية دود القز، وغيرهم في القرى الكبرى وبيروت وصيدا حيث اشتغلوا في تجارة الحرير. وكانت الحركة التجارية قد نشطت بين البلاد العثمانية وبلاد الغرب في النصف الثاني من القرن السادس عشر، فازداد الطلب على نتاج المناطق الدرزية وكسروان من الحرير. وقامت عن طريق الحرير مصلحة اقتصادية مشتركة تجمع بين الموارنة والإمارة المعنية وتوطد وحدة الحال بين الطرفين، إذ أصبح نشاط الفلاحين والتجار الموارنة قواماً لاقتصاد الإمارة. كما كان تأييدهم السياسي دعامة لسطوة الأمير. ووجد الأمير في الموارنة من الوفاء ما عله يخصهم بعناية مفضلة. فأصبحت لهم في عهده مكانة ممتازة وصفها البطريرك اسطفان الدويهي (1629 ـ 1704) بقوله:
«وفي دول فخر الدين ارتفع رأس النصارى، عمروا الكنائس وركبوا الخيل بسروج ولفوا شاشات وكرور، لبسوا طوامين وزنانير مستقـطة وحملوا القاص والبندق المـجوهرة. وقدمــوا المرسلين من بلاد الفـرنج وأخذوا السكنة في جبل لبنان. لكون غالب عسكره كانوا نصارى، وكواخيه وخدامه موارنة».
وكان اهتمام رومية بالموارنة، في هذه الأثناء، قد ازداد على أثر الاصلاح الذي أدخل على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في أواسط القرن السادس عشر، فأخذ أحبار رومية يعينون كاردينالاً خاصاً من كرادلة الكنيسة لرعاية شؤون الطائفة المارونية. وعام 1585 انشأ البابا غريغوريوس الثالث عشر في رومية مدرسة خاصة لتدريس الكهنة الموارنة. وفي الوقت ذاته قوى نشاط المرسلين الكاثوليكيين، من الفرسيسكان واليسوعيين وغيرهم، في بلاد المشرق، فتوطدت العلاقات بين الكنيسة المارونية والكنيسة الكاثوليكية في الغرب عن طريق هؤلاء المرسلين. وعام 1596 عقد مجمع للكنيسة المارونية في قنوبين حضره قاصد من البابا اقليموس الثامن هو الأب دنديني اليسوعي، وثبت هذا المجمع من جديد تمسك الموارنة بالايمان الكاثوليكي وخضوعهم لرومية.
وارتاح أحبار رومية لسيــاسة فخر الدين تجاه الموارنة، كما ارتاحوا لحـسن المعاملـة الـتي لقيــها المرسلــون الكاثوليـكيون في بـلاده، فأخـذوا يشجعون الموارنة على اعتباره حامياً ونصيراً لهم. وزاد في ثقة الفاتيكان بالأمير ذلك التحالف الذي تم عام 1608 بينه وبين آل مديتشي، أمراء توسقانية. وعام 1610 بعث البابا بولس الخامس برسالة الى البطريرك الماروني يوحنا مخلوف يحثه فيها على طلب الحماية، عند الحاجة، من فخر الدين. وكان يوحنا مخلوف قد سبق أن طلب الحماية من الأمير الدرزي في العام السابق فور انتخابه بطريركاً. وقد ذكر الدويهي ذلك في تاريخه فقال:
«في سنة الف وستماية وتسع مسيحية... اجتمع الرؤساء وأكابر الشعب وجلسوا على الكرسي الانطاكي الاسقف يوحنا ابن مخلوف الهدناني باختيار كل الرعية... ون كثرة المظالم التي كانت صايرة على الكرسي من القشلق ومن الشدياق خاطر (الوكيل على مقدمية بشري) اضطر أن يتوجه الى ناحية الشوف ليكون تحت حماية الأمير فخر الدين... وعندما حضر على الأمير فخر الدين قبله بكل كرامة. وصدف ان قبل ذلك الزمان وقعت الفتنة بين المسلمين سكان قرية مجدل معوش وكثرت القتلى بين الجانبين حتى انهم اتفقوا على بيع القرية والخروج منها. فاشتراها منهم الأمير علي ابن الأمير فخر الدين باثني عشر ألف ودفعها للنصارى. فنزل البكرك في مجدل معوش وعمر له فيها كنيسة ودار واستمر فيها حتى قصد زيارة القدس الشريف».
وتقلّبت الأحوال على الأمير فخر الدين، فاضطر الى التخلي عن الإمارة والهرب الى ايطاليا عام 1613. ثم عاد الى بلاده بعد خمس سنوات وأخذ أمره يتعاظم من جديد. فحارب يوسف سيفا واستولى على بلاد جبيل والبترون عام 1618، ثم على جبة بشري عام 1621. واستمر في التوسع حتى شملت سيطرته الجزء الأكبر من البر الشامي. وباستيلاء فخر الدين على جبة بشري انتهى فيها أمر المقدمين بعدما بلغ سوء تصرفهم تجاه كنيستهم وأبناء طائفتهم حداً لا يطاق. وجعل فخر الدين آل الخازن وكلاء على الجبة، كما جعلهم وكلاء على بلاد جبيل. وكان آل الخازن قد تسلموا قبلاً حكم كسروان عن يد الأمير يونس معن، شقيق فخر الدين، وذلك عام 1615 عندما كان الأمير فخر الدين مقيماً في ايطاليا. فما أن أضيفت إليهم بلاد جبيل وجبة بشري حتى أصبحوا الأسرة الأولى بين الموارنة دون منازع. واتبع آل الخازن، تجاه طائفتهم، السياسة التي اتبعها آل حبيش قبلهم، فسهروا على تعزيز شأن الموارنة وخدمة مصالحهم المادية والمعنوية بشتى الوسائل.

([) من كتاب «الموارنة ـ صور تاريخية» يصدر قريباً عن دار نلسن

 

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,577,565

عدد الزوار: 6,955,908

المتواجدون الآن: 60