قراءة في احداث الشرق الأوسط (1/3)

تاريخ الإضافة الثلاثاء 10 أيار 2011 - 5:48 ص    عدد الزيارات 929    التعليقات 0

        

قراءة في احداث الشرق الأوسط (1/3)
ثورات الشباب: من الدولة العسكرية إلى الدولة المدنية
بقلم: صلاح سلام

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان! هذا ما تحاول ثورات الشباب التي تجتاح العالم العربي هذه الأيام أن تؤكّده من جديد، عبر انتفاضاتها على أنظمة التسلّط والظلم التي سلبت من شعوبها حق الحياة الكريمة، بكل ما تجسّده الحقوق الإنسانية الطبيعية التي بشّرت بها وكفلتها الرسالات السماوية·

ما يجري في أكثر من دولة عربية من انتفاضات وثورات شعبية غاضبة، يواجه أصحابها العزّل من السلاح الرصاص القاتل والقذائف الحارقة باللحم الحي، والأجساد الطاهرة، لأن إيمانهم بوطنهم وبحقهم في العيش على ترابه أحياء وأصحاب قرار وكرامة، أثبتت المواجهات الدامية أنه أقوى من أي سلاح آخر·

ما يجري ليس تغييراً لحاكم بآخر، ولا استبدال نظام بآخر، بل هي حركة تغيير شاملة للعقليات التي كانت سائدة في السلطة، تغيير للمفاهيم التي تربط الحاكم بالشعب، تغيير في السلوك اليومي للسلطة وأجهزتها المختلفة، وتغيير أكثر جذرية في الممارسة الشعبية الحقيقية للديمقراطية·

وكأني بهتافات الشباب ومعهم الملايين تدوي في المدن والساحات بشعار واحد:

لا صوت يعلو فوق صوت الديمقراطية!

والمسألة لا تكمن برفع مثل هذا الشعار الثوري الحضاري، بقدر ما تعبّر عن عزم الشباب ومعهم المجتمعات التي ينتمون إليها بكسر قيود شعارات المراحل السابقة، وخاصة الشعار الشهير: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، الذي كان في واقع الأمر مدخلاً لمصادرة الحريات وكمّ الأفواه، وإلغاء أدنى الممارسات الديمقراطية، بحجة إعطاء الأولوية المطلقة للمواجهة مع العدو الصهيوني·

فكان أن خسرت الأنظمة معركتها العسكرية مع العدو، وخسرت الشعوب حريتها، وحقها الطبيعي في الحرية والديمقراطية والتنمية والحياة الكريمة·

ما يقوم به الشباب اليوم في تونس ومصر وليبيا، وغداً في اليمن والجزائر وبلدان أخرى، هو تغيير حركة التاريخ في المنطقة، بعد ركود طويل فرضته قبضة الأنظمة الاستبدادية، وممارسات الأجهزة القمعية التي كانت تمنع نور الشمس من الوصول إلى المؤسسات والبيوت، وإلى الزنزانات والسجون·

كان الحاكم يعتقد ان ليالي حكمه يمكن ان تطول وتطول وتطول·· والشعب يبقى خانعاً في سباته العميق عقوداً ودهوراً، وان الوطن يبقى مزرعة للعائلة يتوارثها الأبناء والاحفاد·

قد يكون صباح الثورة قد تأخر عقوداً من الزمن، ولكن شمس الحرية التي اشرقت من أرض قرطاج، ومن بلاد الكنانة سرعان ما انتشرت في طول المنطقة العربية وعرضها، واخرجت الشعوب العربية من سباتها العميق، واطلقت العنان لمسيرة الحرية والديمقراطية التي جرفت في طريقها انظمة التسلط والتفرد والتحكم بمصير البلاد والعباد·

  

حركة التاريخ لا تعود الى الوراء: انتهى زمن الدولة العسكرية والأمنية وبدأنا نعيش زمن الدولة المدنية، نعم المدنية، وليس الدينية، رغم مشاركة تنظيمات إسلامية فاعلة في صناعة هذا التغيير·

وهذا الكلام ينقلنا للحديث عن الغد، عن المستقبل، بعد أن تنجز ثورات الشباب مهماتها التغييرية·

وفي إطار الحرص على الإيجاز وتجنب الإطالة أود حصر القراءة السياسية للمتغيّرات المتلاحقة في نقاط محددة على النحو التالي:

أولاً: ما نشهده اليوم من سقوط أنظمة الحزب الحاكم وما كانت تعنيه تلك الانظمة من استئثار بالسلطة، واستبداد في الحكم، وقمع للحريات، ومنع للتعددية الحزبية الحقيقية، ومصادرة الممارسة الديمقراطية، الامر الذي يعني اننا أمام أنظمة حكم جديدة تناقض في توجهاتها الانظمة السابقة وتفتح المجال واسعاً أمام مكونات المجتمع المدني لممارسة حقوقها الطبيعية في الحرية والديمقراطية·

وهذا يعني ان عصر التفرد سواء من حاكم أم من حزب أم من طائفة أم من فئة قد ولّى، وان الشراكة الوطنية هي صمام الأمان لتجنب الوقوع في انظمة الحزب الواحد وحكومات اللون الواحد·

ثانيا: طي مرحلة <الرئيس الحاكم مدى الحياة>، والعودة الى مبدأ تداول السلطة عبر اعتماد النصوص الدستورية التي تحدد عدد سنوات الرئيس الحاكم بولاية أو ولايتين، تحت طائلة المحاسبة الدستورية إذا دعت الضرورة لذلك·

والعودة الى تداول السلطة يعني بشكل واضح وحاسم عدم إمكانية تحويل الجمهورية الى شبه امارة تعتمد نظام التوريث من جيل الى آخر، متجاوزة بذلك أبسط الأصول الديمقراطية·

والتقيد بقواعد تداول السلطة يؤدي في النهاية الى اسقاط أساليب التفرد والاستبداد، ويحول دون تنامي الشهوات الجامحة في الحكم والسلطة، وتداعياتها السلبية على الممارسة الديمقراطية السليمة·

ثالثاً: ان قيام الانظمة الديمقراطية الجديدة يعني فتح أبواب المشاركة السياسية والشعبية في إدارة الحركة السياسية، وفي تكوين السلطة الجديدة، فضلاً عن توسيع آفاق العمل السياسي والحزبي المنظم وفق آلية قانونية واضحة، تتيح لأجيال الشباب الانخراط في عمليات التخطيط والنهوض بأوطانهم، والمشاركة الفعلية في صناعة القرارات الوطنية بما يؤمّن أكبر تمثيل ممكن للحكم الديمقراطي·

رابعاً: أدى خروج مارد الشباب من القمقم الذي حبسته فيه الانظمة الديكتاتورية إلى تفجير حالة تمرد على سياسات تخدير الشباب بالوعود المعسولة وعلى محاولات تهميش عصب المجتمع النابض وابعاده عن المواقع الطليعية في المجتمع، بالإضافة الى تفجير نقمة الشباب العاطلين عن العمل، والتي بلغت نسبتهم في تونس مثلاً 22 بالمئة معظمهم من خريجي الجامعات والمعاهد العليا·

ولا بد من التوقف عند ظاهرة التحام الشباب من مختلف الطبقات الاجتماعية في مواجهة أساليب السلطة الغاشمة في تفريقهم والإيقاع بينهم·

لقد قاد شباب الطبقة الوسطى، ومعظمهم من أبناء المدن الكبرى الطلائع الأولى للمظاهرات المليونية في تونس ومصر، الأمر الذي يؤكد ان الإرادة في التغيير نحو نظام ديمقراطي عصري كانت هي الشرارة الأولى لثورات الشباب، وليس فقط مشاعر العوز والحرمان التي حركت الطبقات الفقيرة ودفعتها للالتحاق بانتفاضة الشباب، وتحويلها الى ثورة شعبية عارمة·

من حق الشاب العربي أن يتساءل: لماذا أقرانه في المجتمعات المتقدمة قادرون على المشاركة في حياة أوطانهم وأحزابهم ومدنهم وبلداتهم··

في حين تبقى هذه المشاركة عصيّة على الشباب العربي المهمش والمعزول عن سياق الحياة اليومية؟

من حق الشاب العربي أن يتساءل: كيف يستطيع الشاب الأميركي أن يؤسس أهم الشركات التكنولوجية ويحقق طموحات باهرة، في حين يبقى معظم الشباب العربي عاطلاً عن العمل، ومن يعمل لا يكاد مدخوله يسد الرمق والجوع·

من حق الشاب العربي أن يتساءل: لماذا يحتكر كهول مجتمعه السلطة والمناصب العليا في حين يتولى الشباب في أوروبا وأميركا أعلى الوزارات وأعلى المراكز القيادية ولم يتجاوزوا العقد الرابع من أعمارهم؟

من حق الشاب العربي أن يتساءل أيضاً وأيضاً: لماذا تتكدس الثروات في أيدي الحاكم واسرته، وفي جيوب أزلامه وزبانيته، في حين يبقى إقتصاد البلد متخلفاً، ونسبة محترمة من الناس الغلابى تعيش تحت خط الفقر·

ليس مستغرباً، أن تكون كل هذه العوامل مجتمعة قد أدت في النهاية إلى تفجير ثورات الشباب الملتهبة حالياً في أكثر من بلد عربي·

  

طرحت التغييرات المتسارعة في مصر وتونس ومشاركة تنظيمات إسلامية عريقة فيها أكثر من علامة استفهام حول مستقبل الأنظمة الجديدة، وحول دور أو مكانة الإسلاميين فيها، وثمة من يتخوّف من قيام حكومات ذات خلفيات دينية، في مرحلة تكون فيها الأحزاب العلمانية والليبرالية الجديدة قيد التكوين·

في الوقائع أولاً نستطيع القول واستناداً إلى معلومات موثوقة من أرض الواقع، أن التنظيمات الإسلامية لم تشارك في البداية في تفجير الشرارة الأولى في مصر وتونس، بل على العكس بقيت في الأيام الأولى متحفظة عن المشاركة الفعلية، ومترددة في النزول إلى الشارع إلى جانب شباب الجامعات والخريجين العاطلين عن العمل، إلى ان تأكد لقيادات تلك التنظيمات ان المسألة أكبر من مجرد تظاهرة عابرة، وان الانتفاضة تحظى بدعم الأكثرية الساحقة من الناس، وأن عواصم القرار تتجاوب مع مطالب الشباب في التغيير وتحقيق الإصلاحات المنشودة·

وثمة شواهد على أن الإخوان المسلمين في مصر نزلوا إلى الشارع في اليوم الرابع للانتفاضة، وان التيارات الإسلامية في تونس التحقت بالإنتفاضة في نهايات الأسبوع الأول لإنطلاقتها في سيدي بوزيد، هل ثمة مبرر للخوف من قيام الدولة الدينية على انقاض الدولة العسكرية والأمنية المتهاوية؟·

ليس ما يشير في الواقع، إلى أن الأمور سائرة بإتجاه الدولة الدينية· بل على العكس تماماً فثمة مؤشرات على إنتقال تنظيمات الدولة الدينية إلى <الدولة المدنية>، بكامل إرادتها ومن خلال وعيها لطبيعة المتغيّرات الجذرية التي تجتاح الأنظمة الحالية تماماً كما هي حال المؤسسات العسكرية التي سلّمت تحت وطأة الإنتفاضات الشبابية، وبناء لنصائح من <أطراف صديقة> بضرورة الذهاب إلى الدولة المدنية·

إن الخطوات التي اتخذها، وما زال يتخذها، كل من الجيش التونسي والمجلس العسكري في مصر، تؤكد تسليم العسكر بخيار الدولة المدنية التي يطالب بها شباب الثورة في البلدين، قاطعين الطريق بذلك على إستنساخ تجارب العقود الماضية مع الدولة العسكرية·

كما أن التوجهات التي تسير عليها التنظيمات الإسلامية في البلدين، والتي تشابه خلفياتها الفكرية إنطلاقاً من مبادئ الإخوان المسلمين، ان توجهات هذه التنظيمات تؤكد بوضوح لا لبس فيه عدم سعيها لإقامة الدولة الدينية على انقاض الدولة العسكرية· بل ثمة قبول حاسم وتشجيع أكيد على قيام الدولة المدنية التي تشارك فيها مكونات المجتمع في تحمل مسؤولية السلطة الوطنية·

فقد أعلن الإخوان المسلمون في مصر عدم خوضهم إنتخابات رئاسة الجمهورية، ثم اتخذوا خطوة أخرى بإعلان عدم سعيهم للسيطرة على مجلس الشعب والحصول على غالبية المقاعد فيه·

وليس للإخوان المسلمين أي ممثل في لجنة تعديل الدستور، ولا أي صديق في تشكيلة الحكومة الإنتقالية، وطبعاً ليس لهم أي نفوذ في المجلس العسكري·

وكذلك الحال بالنسبة للجماعات الإسلامية في تونس، حيث أعلن القائد الإسلامي المعروف راشد الغنوشي عدم ترشحه لمنصب رئاسة الجمهورية أو لأي منصب رسمي آخر، في الوقت الذي أكد فيه دعمه للجهود المبذولة لتحقيق الإصلاحات الدستورية والسياسية اللازمة للإنتقال بتونس من عهد الدولة العسكرية والأمنية إلى الدولة المدنية·

وأخيراً لا بد من القول بأن مشاركة التنظيمات الإسلامية خاصة، والدينية في تكوين السلطة الجديدة من شأنها أن تُسقط <تابو> الخوف من وجود ودور هذه التنظيمات ذات الخلفيات الوطنية، القائمة على الحوار مع الآخر، والإعتراف بالآخر، والمتمسكة بقواعد الوسطية والإعتدال·

ولعل إسترشاد هذه التنظيمات بتجربة <حزب العدالة والتنمية> في تركيا في العمل السياسي والنجاح في الجمع بين مبادئ العلمانية والإلتزام بالعقيدة الإسلامية ومنهجها الإجتماعي، من شأنه أن يحد من إنتشار المنظمات المتطرفة التي تعتمد العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، بعد تغليفها بشعارات إسلامية واهية تضلل بها الشباب المهمش أصلاً والمتحمس لخدمة قضايا وطنه وأمته·

   دعوني أؤكد ختاماً أن العالم العربي أمام فجر جديد سيجعل من الديمقراطية الليبرالية شمسه الدائمة في الدولة المدنية الموعودة·

* مداخلة القيت في ندوة المركز الكاثوليكي للإعلام في 1/3/2011


 

 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,086,326

عدد الزوار: 6,977,955

المتواجدون الآن: 85