ملف الحرب الروسية على اوكرانيا..بعد عام على الحرب..هل باتت روسيا أكثر أمناً؟...

تاريخ الإضافة الجمعة 24 شباط 2023 - 7:19 ص    عدد الزيارات 585    التعليقات 0

        

بعد عام على الحرب..هل باتت روسيا أكثر أمناً؟...

الفضاء الإقليمي خائف من طموحات الكرملين... و«الأطلسي» يتمدد على الحدود

الشرق الاوسط...موسكو: رائد جبر... مع انقضاء عام كامل على انطلاق العمليات العسكرية في أوكرانيا، تبدو التساؤلات المطروحة حول حجم إنجازات، أو خسائر الكرملين، على الصعيدين الإقليمي والدولي الأكثر صعوبة وحساسية. المواجهة الكبرى التي اشتعلت نيرانها منذ لحظة توغل الدبابات الروسية في أراضي البلد الجار قبل عام، حملت عنواناً بارزاً وعريضاً حول «اضطرار موسكو إلى الدفاع عن مصالحها وأمنها الاستراتيجي» في مواجهة التحديات التي طرحها تمدد حلف شمال الأطلسي على مقربة من أراضي روسيا، مع تفاقم «المخاوف» من تحول أوكرانيا إلى رأس حربة لتطويق روسيا عسكرياً وأمنياً. هذا العنوان سيطر على تبريرات قرار الحرب، مع رزمة من الأهداف المباشرة، بينها الدفاع عن «أراضي روسيا التاريخية» و«إنقاذ» سكان دونباس من سيطرة «النازيين الجدد». لكن، مع مرور عام على المواجهة التي سرعان ما تحولت بحسب التعبير الروسي إلى «حرب عالمية تستهدف وجود روسيا»، يبدو المشهد أكثر غموضاً والتباساً على صعيد الوضع الإقليمي، وفي إطار البحث الدائم عن حلول لمتطلبات روسيا على صعيد ضمان الأمن الاستراتيجي.

بعبارة أخرى، يطرح السؤال: هل غدت روسيا أكثر أمناً بعد عام على المواجهة الكبرى؟

لقد اتضح من مجريات القتال حجم التعثر الميداني، وفشل خطط «الحرب الخاطفة»، ما دفع محللين غربيين إلى تأكيد أن حرب أوكرانيا أظهرت أن «روسيا أقل خطراً مما كان يعتقد الغرب». زاد الأمر وضوحاً بعد اضطرار موسكو إلى التراجع في مناطق مهمة مثل خيرسون الاستراتيجية، الملاصقة لشبه جزيرة القرم، واتضاح أن القوات الروسية التي ذهبت إلى أوكرانيا لـ«تحرير دونباس» وتمتلك جيشاً مهماً من الانفصاليين الموالين لها في المنطقة، ما زالت بعيدة عن إخضاع إقليم دونيتسك، وفشلت في إخضاع زابوريجيا، وتواجه هجمات مضادة قوية منذ أشهر في لوغانسك، وهذه هي المناطق الأربع التي قامت روسيا بضمها رسمياً؛ ما يعني أنها انتقلت من موقع الهجوم إلى الدفاع عن «جزء من أراضيها»، وفقاً لتوصيف الرئيس فلاديمير بوتين.

تمدد الأطلسي

مع هذا التعثر، عكس تركيز الجهد العسكري لحلف شمال الأطلسي على مقربة من حدود روسيا، ونشر قوات بشكل غير مسبوق في أوروبا الشرقية، فضلاً عن مسار انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف ما يعني تحويل بحر البلطيق إلى «بحيرة أطلسية» لجهة السيطرة والانتشار، وتطويق الحضور الروسي الذي يغدو أكثر ضعفاً فيها. هنا برزت دلالات أخرى مهمة دفعت إلى زيادة التساؤلات عن مدى نجاح موسكو في تحقيق أهدافها، وخصوصاً في الشق المتعلق بـ«حماية» الجبهة الغربية من تقدم «الأطلسي». لا يخفى أن انضمام فنلندا والسويد المحتمل للناتو يشكل إضافة مهمة للغاية للناتو؛ فكل منهما تملك قوات عسكرية محترفة، والقدرة على حشد أكثر من مليون جندي احتياط خلال أيام قليلة؛ إذ يفرض البلدان نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، ويمتلكان صناعات عسكرية متقدمة، ويوفران قدرات دفاعية قيمة، بالإضافة لموقعهما الاستراتيجي. وتملك فنلندا حدوداً برية مع روسيا في الشمال الغربي على امتداد نحو 1300 كلم. كما أنهما تزيدان من مساحة سيطرة الناتو البحرية في بحر البلطيق.

تكلفة باهظة

أيضاً، يؤدي قبول الناتو انضمام الدولتين الإسكندنافيتين إلى تطويق عسكري على روسيا من جهة الشمال الغربي. وسيزيد بشكل ملموس القدرات العسكرية للناتو في المنطقة، خاصة في مجالي جمع المعلومات الاستخباراتية والاستطلاعية، ويعزز مواقع القوات الجوية وكذلك البحرية للناتو. وفي مواجهة هذا التطور، بدأت روسيا تطبيق خطط لنشر قواتها المسلحة مع نقل مجموعات كبيرة منها إلى الجناح الشمالي الغربي. ومن المتوقع في هذا السياق أن تنشر القيادة الروسية في شمال غربي البلاد مجموعات إضافية من القوات البرية والقوات الجوية الفضائية ونظام الدفاع الجوي والأسلحة الصاروخية، إضافة إلى تعزيز أسطول البلطيق. وفي هذا الصدد، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في مايو (أيار) الماضي، عن اتخاذ إجراءات عسكرية روسية جديدة على الحدود الغربية؛ رداً على التحديات الأمنية الجديدة. بينها تحسين تشكيلات القوات المسلحة في المنطقة وإنشاء 12 وحدة عسكرية جديدة فيها. يعني هذا التوجه زيادة تكلفة المواجهة عسكرياً واقتصادياً على روسيا. أيضاً، يعزز قرار ضم فنلندا والسويد التوجه العام نحو تآكل مجموعة الدول المحايدة في أوروبا، وحصرها في 3 بلدان هي النمسا وسويسرا وآيرلندا، وفي حال استمرار الوتيرة الحالية لتغيرات الأوضاع الأمنية في المنطقة، لا يستبعد أن تتخلى هذه الدول عن وضعها المحايد. العنصر الآخر اللافت في الحصيلة الروسية خلال حرب أوكرانيا، يكمن في الوضع المستجد في الفضاء السوفياتي السابق. وقد أظهرت الحرب هشاشة التحالفات التي أقامتها موسكو في محيطها الإقليمي، على المستويات العسكرية والسياسية والأمنية، بل الأسوأ من ذلك، أنها أظهرت تراجع مواقع موسكو ونفوذها الإقليمي على خلفية تعاظم المخاوف في المنطقة من طموحات الكرملين السياسية والعسكرية.

الفضاء الإقليمي خائف

خلال عام 2022، تم عقد قمتين لرابطة الدول المستقلة، وقمتين لمنظمة الأمن الجماعي، واجتماعين للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وقمة واحدة لمجموعة «منظمة شانغهاي للتعاون»، برز خلال كل تلك اللقاءات الجهد الروسي المكثف والموجه إلى حشد التأييد لسياسات موسكو أو في حالات أخرى لتجاوز ملفات خلافية برزت بقوة بسبب حرب أوكرانيا، مع بلدان ظلت حليفة لروسيا على مدى العقود الثلاث السابقة مثل كازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان. لكن المحصلة كانت محدودة للغاية، وباستثناء بعض الإجراءات الاقتصادية والتجارية المشتركة، وبعض الاتفاقيات على مواجهة مخاطر مشتركة مثل التهديد الإرهابي المحتمل من أفغانستان، أو التحول في حالات محدودة للتعامل بالعملات الوطنية، فقد فشلت هذه القمم في تبني مواقف واضحة تدعم المواقف الروسية. لقد سعت غالبية بلدان الفضاء السوفياتي السابق إلى النأي بنفسها عن تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا، وتبنت كلها (باستثناء بيلاروسيا) مواقف تتحفظ على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وإن كان بعض هذه البلدان لم يذهب بعيداً لتوجيه إدانة علنية واضحة لكن مواقفها اشتركت في عدم دعم موسكو، كما ظهر أكثر من مرة في تصويتات الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرارات أدانت موسكو. وبدا أن النخب الحاكمة في المنطقة واجهت صعوبات في تحديد المخاطر والفرص، والموازنة بينها. فجميع هذه البلدان خرجت من العباءة السوفياتية في ذات الفترة التي استقلت فيها أوكرانيا، ولدى بعضها مشكلات مع الأقليات الروسية التي تحمل جنسيتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومعظمها مرتبط بعلاقات شراكة اقتصادية وتجارية مع روسيا، وجزء منها عضو في تحالفات اقتصادية وعسكرية مع موسكو. وإضافة إلى مخاوف من تكرار سيناريو دونباس أو القرم، فإن الأوضاع الاقتصادية تشكل أحد أخطر التحديات المباشرة، إضافة إلى تحديات المحافظة على تماسك المجتمعات الهشة في معظم هذه البلدان. لقد راقبت البلدان «الحليفة» الأساسية لموسكو كيف بدت موسكو معزولة دولياً من دون أن تسعى إلى إبداء أي قدر من الدعم السياسي لها. والأكثر من ذلك، أن بعضها، مثل كازاخستان التي كانت دائماً الحليف الأقرب للكرملين، ذهب إلى اتخاذ مواقف علنية صريحة ضد ضم المناطق الأوكرانية وضد العملية العسكرية الروسية، ما أسفر عن توتر في العلاقات سعت موسكو إلى التغلب عليه لاحقاً وكسر الجمود من بوابة التعاون الاقتصادي التجاري، وهو الملف الملحّ بالنسبة إلى آستانة.

بيلاروسيا... الحليف الوحيد للكرملين

وفي حالات أخرى، لم تنجح حتى محاولات موسكو لترتيب آليات تجارية مشتركة، مثل تنفيذ الاتفاقات الموقعة سابقاً على التعامل بالعملات الوطنية، أو إطلاق عمل بنظام بطاقات الدفع المباشر «مير» الروسي، الذي سرعان ما تراجعت عنه بعض البلدان مثل طاجكستان وأذربيجان. من بين جميع بلدان رابطة الدول المستقلة، فقط بيلاروسيا دعمت الموقف الروسي بشكل علني وواضح. والأكيد أن الظروف السياسية والاجتماعية ساهمت في تبلور هذا الموقف الذي كان يمكن أن يكون مغايراً، لولا مواجهة مينسك تطورات داخلية على خلفية الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد وكادت تطيح بحكم الرئيس ألكسندر لوكاشينكو؛ إذ فقد الرئيس لوكاشينكو عملياً قدرته على المناورة بعد أن كاد يتم الإطاحة بنظامه في مرحلة الاحتجاجات الواسعة في خريف عام 2020، واتهمت مينسك الغرب بتأجيج محاولات «الثورة الملونة» في البلاد. في المقابل أظهر لوكاشينكو استعداداً حازماً للقتال من أجل الحفاظ على سلطته ولعب الدعم الروسي دوراً كبيراً في ذلك. كان هذا هو العامل الرئيسي الذي دفع لوكاشينكو المحاصر باتهامات غربية واسعة بانتهاكات لحقوق الإنسان، وبنية اجتماعية هشة بسبب القمع العنيف للاحتجاجات، إلى إبداء الدعم الواضح لروسيا، والذي وصل إلى درجة السماح بشن العملية العسكرية من أراضي بلاده، وتشكيل مجموعة مشتركة من القوات مع روسيا على طول الحدود الغربية وإنشاء مظلة دفاع جوي مشتركة شمال أوكرانيا.

احتمال اتساع جبهة الحرب

قد تكون مولدافيا أفقر بلدان أوروبا، أحد أكثر الأطراف المحيطة بروسيا ترجيحاً للانخراط المباشر في الحرب، خصوصاً مع تصاعد لهجة المطالبة أخيراً بانسحاب روسيا من هذا البلد. ظروف هذا البلد مطابقة تماماً لظروف أوكرانيا، لجهة التوجه نحو الغرب ومحاولات الاندماج مع أوروبا، والسعي إلى إنقاذ البلاد من تقسيم يبدو محتوماً إلى شطرين؛ أحدهما موالٍ لموسكو في إقليم بريدنوستروفيه الانفصالي الذي تحتفظ فيه روسيا بقوات حفظ سلام هي عملياً قوات للتثبت من عدم قدرة كيشينيوف على استعادة السيطرة عليه عبر استخدام القوة، فضلاً عن عناصر متطابقة في ملف منح الجنسية الروسية للمقيمين فيه لتبرير أي عملية محتملة لـ«الدفاع عن مواطنين روس». والأهم من ذلك، أقدار الموقع الجغرافي لمولدافيا بالقرب من أوكرانيا، ومنذ بداية الحرب برزت مخاوف من التقدم الروسي نحو أوديسا في جنوب غربي أوكرانيا، والسيطرة على هذا الميناء المهم على البحر الأسود، ما يعني أن الهدف اللاحق للكرملين هو مد نفوذه وبسط سيطرة مطلقة على الإقليم المجاور وهو بريدنوستروفيه. تزايدت المخاوف المولدافية، بعد صدور تصريحات عن النخب العسكرية الروسية بأن مكسب السيطرة الروسية على الشواطئ الجنوبية لأوكرانيا على البحر الأسود لن يكتمل على الصعيد الاستراتيجي إلا بضم مناطق شرق مولدافيا؛ لإحكام النفوذ الروسي على المنطقة. وبالتأكيد فإن مولدافيا باتت تشعر أن مصيرها كدولة مستقلة يبدو معلقاً حالياً بمصير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

مغامرة بوتين في أوكرانيا... أمام الامتحان

الشرق الاوسط...كتب: المحلل العسكريّ... لم يصدف في التاريخ أن كانت الحرب معزولة عن السياسة. فالحرب هي السياسة، لكن بوسائل أخرى، حسب كارل فون كلوزفيتز. والحرب تُخاض لأهداف سياسية بحتة، شرط أن تكون هذه الأهداف قابلة للتحقيق. والعكس قد يعني أن استراتيجيّة الحرب المرسومة سوف تناقض طبيعتها. فاستراتيجيّة الحرب بشكل عام، هي تلك الطريقة (الكيف في التنفيذ) التي تربط الأهداف بالوسائل، شرط التوازن بين الاثنتين. أن تدخل الحرب بثقة زائدة، متجاهلاً الكثير والكثير من متطلّبات النجاح، لهو أمر قاتل. وأن تدخل الحرب ومفتاح نجاحها بيد الأعداء، لهو أمر يعكس السطحيّة الاستراتيجيّة للمخطّطين. لكن المصيبة تكمن، بالثمن المدفوع لأي تعثّر. فمن يرِدْ أن يكون قوّة عظمى فعليه تجميع عناصر القوّة لمشروعه. وإذا تعذّر ذلك، فعليه ابتكار استراتيجيّة فريدة من نوعها، تجمع «القوّة الطريّة» مع القوّة الصلبة، بهدف التعويض عن أيّ نقص من عناصر القوّة.

فشل منظومة بوتين لردع الغرب!

لم يستطع الرئيس بوتين وبعد سنة على عمليته العسكريّة في أوكرانيا، تركيب منظومة ردعيّة فاعلة وقادرة على تسهيل حربه. بكلام آخر، لم تنفع استراتيجيّته والمُسمّاة استراتيجيّة الرجل المجنون (Mad Man Theory)، في ردع الغرب. فهو أراد حماية حربه التقليديّة بمظلّته النوويّة، مُظهراً نفسه لاعباً غير عقلانيّ (Irrational). فمن التهديد النوويّ المتكرّر من قبله، ومن قبل الرئيس الروسي السابق ميدفيديف، إلى وزير الخارجيّة سيرغي لافروف. كان ردّ الغرب عبر اتباع استراتيجيّة القضم المُتدرّج لخطوط بوتين الحمراء. وللتذكير فقط، استعمل الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون، وبالتعاون والتنسيق مع هنري كيسنجر، استراتيجيّة الرجل المجنون في حربه على فيتنام. فصوّر نيكسون نفسه آنذاك على أنه لاعب غير عقلاني قد يذهب إلى استعمال النووي في حال لم تلبَّ مطالبه، وذلك مقابل حركيّة كيسنجر العقلانيّة لإيجاد مخرج من مستنقع فيتنام.

من يريد كلّ شيء، قد لا يحصل على شيء

وضع الرئيس بوتين لنفسه أهدافاً تعجيزيّة. من طلبه عودة وضع حلف «الناتو» إلى منتصف التسعينات، إلى إلغاء الدولة الأوكرانيّة، وضمّها إلى روسيا على أنها جزء لا يتجزّأ من مناطق النفوذ الروسيّ، إلى قيادة الانتفاضة العالميّة ضد الإمبرياليّة الأميركيّة، إلى رسم نظام عالميّ جديد تكون فيه روسيا لاعباً كونيّاً وقوّة عظمى على غرار أميركا والصين. كلّ ذلك، باقتصاد ودخل قوميّ يوازي الدخل القومي لمدينة نيويورك. كل ذلك مع تصنيع حربيّ متواضع، يعود أغلبه إلى أيام الاتحاد السوفياتيّ، ودون تصنيع محلّي للشرائح الذكيّة، التي تعد حيويّة لتشغيل أسلحة القرن الحادي والعشرين. كل ذلك مع جيش أغلبه من الأقليات التي تعيش في المناطق النائية وعلى هامش حياة الشعب الروسي في المدن الرئيسّية. جيش لا يحسن القتال المشترك للأسلحة (Combined). جيش مؤلّف من عدّة جيوش، منها الجيش الروسيّ الرسمي، إلى الفرق الشيشانيّة، وحتى شركة «فاغنر» الخاصة. حتى إن هذه الجيوش لا يقاتل بعضها مع بعض، وهي ليست على وفاق، لا بل تتصارع علناً، إن كان حول الاستراتيجيات العسكريّة، أو حتى في طريقة إدارة الحرب. جيش لم يخطط للسيناريو السيّئ، فوقع في فخ الرضا المسبق عن الذات.

بوتين الحائر بين الاستراتيجيّة والتكتيك

في المرحلة الأولى للحرب حول كييف، خسر بوتين في الاستراتيجيّة والتكتيك. غيّر الاستراتيجيّة وتوجّه نحو إقليم الدونباس فحقق نجاحات تكتيكيّة، لكنها لم تُصَب وتتراكم لتؤمّن النجاحات الاستراتيجيّة. بعد الدونباس، خسر الرئيس بوتين التكتيك في إقليم خاركيف، كما أجبر على الانسحاب من مدينة خيرسون. وبذلك، تراكمت الخسائر التكتيكيّة والاستراتيجيّة على كتف الرئيس بوتين لتعيده إلى مربّع الخسارة الأول حول العاصمة كييف.

التقييدات على سلوك بوتين في المرحلة المقبلة

لا يمكن للرئيس بوتين أن يخسر مرّتين متتاليتين في أوكرانيا.

فالخسارة تعني بالحدّ الأدنى الإطاحة به سياسياً، حتى ولو لم تتظهّر معارضة داخلية حتى الآن.

تاريخيّاً، لا مكان للضعفاء في الكرملين. فكلمة الكرملين وهي من أصل تتريّ، تعني القلعة المُحصّنة. وكلّما كان هناك تعثّر عسكريّ روسي في الخارج، كان التغيير السياسي في الداخل النمط المعتاد.

لا بد للرئيس بوتين من تقديم نصر عسكريّ للداخل الروسي، حتى لو كان محدوداً. وقد يكون هذا النصر في إقليم الدونباس أولاً، وفي إقليم زابوريجيا ثانياً. فهو قد ضمّ هذين الإقليمين إلى جانب إقليم خيرسون.

لكن السيطرة على الأقاليم الثلاثة: الدونباس وزابوريجيا وخيرسون، بأكملها، ليس بالأمر السهل، وذلك استناداً إلى التجارب السابقة مع الجيش الروسيّ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يستطع الجيش الروسي، و«فاغنر» إسقاط مدينة بخموت حتى الآن، وبعد مرور أكثر من سبعة أشهر على العمليّة العسكريّة حولها.

المنتظر من بوتين

بدل النوعيّة أغرق الرئيس بوتين الجبهات بالكميّة، خصوصاً من العسكر الجديد. ألم يقل الزعيم السوفياتي الراحل جوزيف ستالين: «إن للكميّة نوعيّة بحد ذاتها؟»، وبذلك يحاول بوتين اختبار جاهزيّة الانتشار الأوكراني على طول الجبهة لرصد نقاط الضعف.

تقول المعلومات إن الجيش الروسي قد حشد كثيراً من الطائرات الحربيّة والطوافات على حدود أوكرانيا استعداداً لاستعمالها في المعركة المقبلة، خصوصاً أن جاهزيّة السلاح الجويّ الروسي تتجاوز نسبة 80 في المائة.

كما تقول المعلومات إن التجمعات العسكريّة بدأت تظهر داخل الأراضي الروسيّة خصوصاً في مدينة كورسك، التي تقع خارج مدى راجمات «الهايمرس».

يحاول الرئيس بوتين استرداد زمام المبادرة من يد الجيش الأوكراني، وذلك استباقاً لوصول المساعدات الغربيّة، خصوصاً الدفاعات الجويّة ودبابات القتال الرئيسيّة.

وأخيراً وليس آخراً، قد يحاول الرئيس بوتين زرع الفوضى في المحيط الجغرافي لأوكرانيا، إن كان في مولدوفا، أو انطلاقاً من إقليم كاليننغراد الروسي والواقع على بحر البلطيق. هذا عدا إمكانيّة ضرب خطوط الإمداد لأوكرانيا على ثلاثة ممرات بريّة؛ تمرّ عبر كل من: سلوفاكيا ورومانيا وبولندا.

في الختام، هذه هي صورة الجبهّة الروسيّة. لكن رقصة «التانغو» بحاجة إلى شخصين كي تكتمل. فكيف ستكون عليه الجاهزيّة الأوكرانيّة؟ خصوصاً أننا عاينّا في هذه الحرب نماذج الحرب من العصر الزراعي، كما من العصر الصناعي، ودون شكّ من العصر التكنولوجيّ.

مستقبل الحرب... واحتمالات توسعها وخروجها عن السيطرة

باريس وبرلين قلقتان من أن تنتهي بهيمنة الولايات المتحدة اقتصادياً وإضعاف الاتحاد الأوروبي

الشرق الاوسط...شوقي الريّس... إلى متى هذه الحرب؟ إلى أين؟ وما احتمالات اتساع دائرتها؟ وما الذي يمكن أن يضع حدّاً لها قبل أن تخرج عن السيطرة التي تبدو حتى الآن إحدى سماتها الأساسية؟ هذه الأسئلة، وغيرها كثيرة، ما زالت من غير أجوبة شافية بعد سنة على اندلاع أول مواجهة عسكرية مفتوحة في قلب القارة الأوروبية بين قوة نووية كبرى وتحالف غربي واسع تحت عباءة الحلف الأطلسي في الوقت الذي يتلبّد فيه المشهد الاقتصادي العالمي بغيوم سوداء كثيفة تنذر بأزمات عاصفة على أكثر من صعيد. بعد الاندهاش أمام كمية الأخطاء التي ارتكبتها الدولة الغازية في حساباتها، يلفت الانتباه أن هذه الحرب التي اندلعت في مطالع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، والتي تشارك فيها بشكل أو بآخر معظم القوى الحربية الكبرى، تدور بالأسلوب نفسه «التقليدي» الذي دارت به الحربان العالميتان وجميع الحروب الإقليمية الأخرى التي تلتها إلى اليوم، من غير اللجوء إلى استخدام الأسلحة الاستراتيجية والتكنولوجية المتقدمة التي طوّرتها الدول الصناعية في العقود الأخيرة. في الظاهر، انطلقت هذه الحرب، على غرار جميع الحروب التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، من نزاع على الأراضي يعود إلى نشأة البلدين المتحاربين ويضرب جذوره في عمق الهوية القومية لكل منهما، الأمر الذي يبشّر عادة بعدم نهايتها في القريب المنظور واستمرارها لسنوات طويلة. وطالما أن احتمالات اللجوء إلى السلاح النووي ضعيفة جداً رغم التلويح به من حين لآخر، أصبحت المواجهة حرباً استنزافية بامتياز، يتوقف مصيرها على قدرة كل طرف على احتلال الأراضي والحفاظ عليها، وأيضاً على قدراته الجوية لحسم السيطرة الميدانية في المناطق التي تقع تحت سيطرته، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي، في حال عدم حصول اختراق كبير قريباً على جبهة القتال أو على خطوط المفاوضات المعطّلة، إلى تزويد أوكرانيا بطائرات مقاتلة، ما يزيد من احتمالات الدخول المباشر للقوات الأطلسية في الحرب ويفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التصعيد. من هذا المنطلق، تجهد الدول الغربية منذ بداية الحرب، بتوجيه وضغط مباشرين من الولايات المتحدة، لخنق الاقتصاد الروسي والحد من قدراته الإنتاجية والصناعية. ومنه أيضاً تتبدّى أهداف القوات الروسية إلى تكثيف عمليات القصف ضد المدن والبنى التحتية في أوكرانيا، لإضعاف قدرتها على الإنتاج الصناعي وإجبارها على نقل دفاعاتها الجوية إلى مناطق بعيدة عن جبهات القتال الساخنة. وما لا شك فيه أن هذا الأسلوب «التقليدي» للحرب منذ اندلاعها، الذي يرجّح أن يستمرّ في الأشهر المقبلة ليحوّلها إلى مواجهة استنزافية تستقرّ كورم خبيث في خاصرة أوروبا، هو الرهان الوحيد الذي تبقّى لفلاديمير بوتين عندما خسر رهانه الأول على حرب خاطفة بعد أن أجهض الجيش الأوكراني، بتوجيه من المخابرات الغربية، عملية إنزال سريعة للقوات الروسية الخاصة في مطار كييف دعماً لانقلاب سياسي على حكومة زيلينسكي. وهو أيضاً ما دفع الحلفاء الغربيين، العالقين بين مطرقة واشنطن وسندان الحشد الروسي لعملية واسعة على الأبواب، إلى تزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة لم تكن واردة في حساباتهم لأسابيع قليلة خلت، ما سيؤدي حتماً إلى تنامي التيّار المعارض في الدول الأوروبية لضخّ مزيد من السلاح في الحرب ودفعها نحو مرحلة جديدة من التصعيد تعجز عن التحكم بمسارها. وإذا كانت الحرب الطويلة مرادفة لحتمية وقوع كارثة اقتصادية عالمية بدأت تظهر تباشيرها الأولى في تحاليل الخبراء وتنبيهات المنظمات الدولية، فهي تحمل أيضاً خطراً دائماً بنشوب حرب نووية، فضلاً عن احتمالات قوية باتساع دائرتها الجغرافية واضطرار الجيوش الأطلسية إلى الدخول فيها بشكل مباشر. إلى جانب ذلك، يدرك الرئيس الروسي أنه بقدر ما تطول الحرب، بقدر ما تصعب المحافظة على تلاحم الصف الغربي، وتضعف قدرة الولايات المتحدة للتركيز على مواجهة التحديات الصينية ومطامع بكين المعلنة في تايوان. يكرّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن هدفه هو استعادة جميع الأراضي التي احتلتها روسيا منذ عام 2014، مدعوماً بالوعود الغربية الأخيرة لتزويده بأسلحة هجومية متطورة، بما فيها صواريخ بعيدة المدى، ونجاح قواته في استرجاع السيطرة على بعض المدن التي خسرتها في بداية الحرب. لكن هل يعني ذلك أن انتصار أوكرانيا لم يعد مجرد سراب؟ وهل هي في طريقها إلى الانتصار إذا صدقت الوعود الغربية بتزويدها بالسلاح الذي تحتاج إليه مهما طالت الحرب؟ .....

الإجابة عن هذه التساؤلات تتوقف على المقصود بانتصار أوكرانيا. صحيح أن قدراتها العسكرية ازدادت بفضل الخبرات الميدانية التي اكتسبتها قواتها بعد اثني عشر شهراً من المعارك الضارية، وأيضاً بفضل برامج التدريب المكثّف لجنودها في كثير من البلدان الأطلسية والمساعدات الضخمة التي تحصل عليها منذ بداية الحرب، لكن الهجوم المضاد الذي بدأته القوات الأوكرانية ما زال محدوداً جداً، وبعيداً عن أن يشمل جبهات القتال المفتوحة وعاجزاً عن فتح جبهات جديدة، فضلاً عن أن أوكرانيا ليست قادرة على القيام بعملية حربية واسعة تؤدي إلى هزيمة روسيا في حرب واسعة. يضاف إلى ذلك، أنه في حال التسليم بإمكانية «انتصار» أوكرانيا، يجد الغرب نفسه أمام معضلة التساؤل حول ما إذا كان من الحكمة الذهاب في دعمها حتى تحقيق هذا الهدف، أم لا. فالسير في هذا الاتجاه سيؤدي في النهاية إلى جرّ الدول الغربية للدخول مباشرة في الحرب، مع ما يعنيه ذلك من فتحها على كل الاحتمالات. كما أن هزيمة روسيا ستؤدي حتماً إلى سقوط نظام بوتين، من غير معرفة البديل الذي سيأتي بعده والأسس التي ستبنى عليها العلاقات معه في المستقبل. أما المفاوضات، ورغم الاستعداد الذي أبدته الصين مؤخراً للتحرّك في هذا الاتجاه، فهي ما زالت سراباً بعيد المنال في الوقت الراهن، لأن أوكرانيا الآن ترفضها بعد أن صار هدفها المعلن هو استعادة جميع الأراضي التي احتلتها روسيا، بينما تحتاج موسكو لاسترجاع زمام المبادرة في الحرب قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولأنها تعتبر أن الأراضي التي احتلتها حتى الآن ليست كافية لتلبية احتياجاتها الأمنية. اللازمة التي تتكرر باستمرار على لسان فولوديمير زيلينسكي كلما خاطب حلفاءه الغربيين، هي أن أوكرانيا تقاتل عنهم، ومن أجل حريتهم والديمقراطية. لكن الأوروبيين يدركون جيداً أنهم الخاسر الأكبر في هذه الحرب التي «فرضت» عليهم، كما فرض عليهم حشد الدعم لأوكرانيا، بلا أفق زمني أو حدود لتدفق المساعدات المالية والعسكرية تحت العين الساهرة لواشنطن التي تقطف وحدها إلى الآن «ثمار» هذه الحرب، من إعادة الحياة إلى الحلف الأطلسي، إلى إنهاك روسيا بالعقوبات والجهد الحربي، وقطع شرايين إمدادات الطاقة الروسية للاقتصاد الأوروبي وربطه بشروطها، وتحقيق الهدف الاستراتيجي الأعمق بنسف احتمالات التقارب والتحالف في أمد منظور بين روسيا وألمانيا. ورث المخططون الاستراتيجيون الأميركيون أحد المبادئ الأساسية التي قام عليها الفكر الاستراتيجي البريطاني طيلة عقود، وهو ضرب مقومات أي تحالف استراتيجي بين الروس والألمان. هذا التحالف بدأت تظهر ملامحه الأولى عبر مشروع «نورد ستريم» الذي كانت حلقته الأولى الاتفاق الموقع بين «غازبروم»، أكبر منتج للغاز، وشركة «BASF» الألمانية، أكبر شركة كيميائية في العالم يقدّر استهلاكها اليومي للطاقة بما تستهلكه دولة مثل سويسرا. يضاف إلى ذلك، أن أوكرانيا ليست دولة عادية من المنظور الأميركي؛ بل هي المعبر الرئيسي لربط الاقتصاد الأوروبي بالطاقة الروسية الذي تحاول واشنطن تعقيده، من غير أن تنجح، عن طريق مشاريع بديلة عبر منطقة بحر قزوين والدول المجاورة في آسيا الوسطى. ولا شك في أن إطالة الحرب ودفع ألمانيا إلى «المشاركة» فيها، يعزّزان فرص تصدّع الروابط الجيوسياسية بين روسيا وألمانيا بشكل يستحيل رأبه في القريب المنظور. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى التفجير الذي تعرّض له خط أنابيب «نورد ستريم» أمام السواحل الإسكندنافية في سبتمبر (أيلول) الماضي، الذي ما زالت ملابساته غامضة من غير أن تتضح الجهة المسؤولة عنه. عندما أعلنت المفوضية الأوروبية عن الحزمة الأخيرة من العقوبات ضد روسيا، لم يتردد رئيس شركة «BASF» الألمانية في القول إن العقوبات ستؤدي إلى ارتفاع كبير في معدلات البطالة، وإغلاق كثير من المؤسسات، وإلحاق أضرار لا تعوّض بالاقتصاد الألماني، ودفع البلاد إلى أسوأ أزمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في الوقت نفسه، كان وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير يصرّح بقوله إن الحرب في أوكرانيا لا يجب أن تنتهي بهيمنة الولايات المتحدة اقتصادياً وإضعاف الاتحاد الأوروبي. في ضوء كل ذلك، يستحيل التكهن بمستقبل هذه الحرب الذي يبقى مفتوحاً على احتمالات عديدة، وعلى مفاجآت يفرضها مسار المعارك التي دخلت مرحلة من الضراوة يرجح أن تستعر في الأشهر المقبلة، فيما يتعمّق الانقسام بين الدول الأوروبية حول المضي في دفع فاتورة الدعم العسكري لأوكرانيا تلبية لضغوط الحليف الأميركي، الضامن الوحيد لأمنها، وخشية من مغامرات روسية أخرى في الجوار الأوروبي. الشيء الوحيد الأكيد حتى الآن هو أن هذه الحرب، في عمقها الاستراتيجي، ليست سوى الفصل الأخير بالصراع الذي كان منتظراً بين واشنطن وموسكو منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية صعود المارد الصيني الذي يراقب بدقة، وعلى مسافة حذرة، تطور هذه المواجهة التي من المفترض أن تخرج من رحمها معادلة جديدة للتوازنات الدولية.

كيف أساءت روسيا تقدير موقف ألمانيا؟

برلين فاجأت بوتين بتغيير سياساتها تماماً ونجاحها في فك ارتباطها بالطاقة الروسية

برلين: «الشرق الأوسط»... بعد مرور عام على غزو روسيا لأوكرانيا، يزداد كل يوم وضوح حجم الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ لكن هناك خطأً واحداً له الصدارة يتعلق بسوء التقدير بالنسبة لألمانيا. فقد رأى بوتين أن ألمانيا تعتمد اعتماداً كبيراً للغاية على الطاقة الروسية، وضعيفة للغاية عسكرياً، وذات عقلية تجارية تحول دون قيامها بأي مقاومة لحربه ضد أوكرانيا. وكان مخطئاً في ذلك. وتقول الدكتورة ليانا فيكس، خبيرة شؤون أوروبا بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، وكارولين كاب، الباحثة بالمجلس، إن روسيا أصبحت في العقد المؤدي للاجتياح في فبراير (شباط) 2022، تشعر بالجرأة بافتراضها أن ألمانيا تقدِّر مصالحها الاقتصادية فوق كل شيء آخر. وهذه المصالح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باعتماد ألمانيا الشديد على استيراد الغاز الطبيعي الروسي رخيص الثمن. وتضيف فيكس وكاب في تقرير نشره مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، أن اعتماد ألمانيا على روسيا استمر بالنسبة للطاقة في التزايد، حتى بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم، وأشعلت حرباً في شرق أوكرانيا عام 2014، مما يبدو أنه تأكيد لتفكير موسكو. وعندما اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا مطلع العام الماضي، كانت روسيا تزوِّد ألمانيا بأكثر من نصف إجمالي الغاز الطبيعي الذي تستهلكه، بقيمة تبلغ نحو 220 مليون دولار يومياً. وعزز تجنب ألمانيا الراسخ استخدام القوة العسكرية الذي يرجع إلى تاريخها في الحرب العالمية الثانية سوء تقدير روسيا. ففي عام 2014 أكدت أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا في ذلك الوقت، أنه ليس هناك حل عسكري للنزاع في أوكرانيا، ورفضت الاقتراحات بأن تقدم ألمانيا مساعدات أسلحة لكييف. وأكدت وساطة ألمانيا فيما تسمى «صيغة نورماندي» في الفترة من 2014 إلى 2022 بينها وبين روسيا، وأوكرانيا، وفرنسا، انطباع روسيا بأن ألمانيا سوف تعطي الأولوية للدبلوماسية كنهجها الأساسي في السياسة الخارجية. وتوقعت روسيا أنه -فيما وراء الخطاب السياسي والعقوبات الاقتصادية- سوف تذعن ألمانيا في نهاية الأمر للهيمنة الروسية في أوروبا الشرقية. كما أن تصورات بوتين الخاطئة تعتبر نتيجة لاتصالاته الشخصية العميقة مع ألمانيا. فقد عاش وعمل ضابطاً للمخابرات الروسية في درسدن لعدة سنوات في ثمانينات القرن الماضي، وشهد الاحتجاجات الجماهيرية التي اتسمت بها الأيام الأخيرة للجمهورية الديمقراطية الألمانية (ألمانيا الشرقية) ونهاية حلف وارسو. وهو يتحدث الألمانية بطلاقة. وفي عام 2001 ألقى خطاباً في البرلمان الألماني باللغة الألمانية، وهو أول رئيس روسي يفعل ذلك. كما ارتبط بعلاقات شخصية وثيقة مع المستشار الأسبق جيرهارد شرودر، وبعد أن ترك شرودر منصبه، تم تعيينه رئيساً لمجلس إدارة شركة الطاقة الروسية العملاقة «روسنيفت». وعزز كل ذلك اعتقاد بوتين بأنه يعرف ويفهم خبايا السياسة الألمانية؛ التي كان يعتقد أن مجال الأعمال يهيمن عليها. وذكرت فيكس وكاب أن بوتين أكد مراراً وتكراراً الصلات التاريخية بين ألمانيا وروسيا؛ مشيراً إلى عقدة الذنب بالنسبة للجرائم التي ارتكبتها ألمانيا النازية في الاتحاد السوفياتي، وتقدير ألمانيا لموافقة الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف على تحقيق توحيد سلمي لألمانيا. ووصف بوتين في مناسبات عديدة ضم شبه جزيرة القرم بأنه توحيد، في محاولة لعقد مقارنة بتوحيد ألمانيا عام 1990. وكانت مفاجأة لبوتين قيام ألمانيا بتغيير سياساتها تماماً تجاه روسيا، بما في ذلك فك ارتباطها بالطاقة الروسية بنجاح. وسعت روسيا إلى الإسراع بوضع اللمسات الأخيرة لخط أنابيب «نورد ستريم 2» في الشهور التي سبقت الاجتياح، وتعمدت تفريغ خزانات الغاز الألماني التي تمتلكها شركة «غازبروم» الروسية لزيادة الضغط على ألمانيا. ومع ذلك، قامت ألمانيا قبل أيام قليلة من الحرب بإنهاء مشروع «نورد ستريم 2» بصورة لا رجعة فيها، بعد أن أوقفت روسيا كل إمدادات الغاز، وتحولت أساساً من غاز خط الأنابيب الروسي الأساسي إلى الغاز الطبيعي المسال لملء خزاناتها. كما قامت ألمانيا بتعزيز ودعم العقوبات المفروضة على روسيا. ونقلت صحيفة «فيلت أم زونتاغ» عن وزارة المالية الألمانية قولها إن السلطات فرضت عقوبات على أصول روسية بقيمة 5.32 مليار يورو (5.69 مليار دولار) تقريباً في ألمانيا بسبب اجتياحها أوكرانيا. وأفادت الصحيفة بأن الأصول مملوكة لكيانات روسية، مثل البنك المركزي الروسي، وشركات وأفراد مدرجين على قائمة الاتحاد الأوروبي للعقوبات. وقالت إن الوزارة لم تذكر قيمة الأصول المجمدة التي يملكها أثرياء من النخبة الروسية. ونقلت الصحيفة عن الوزارة أيضاً أن هيئة مركزية جديدة لتنفيذ العقوبات لا تزال قيد الإنشاء، ويعمل بها بالفعل 36 موظفاً، وسيتم تعيين المزيد. وفي الفترة ما بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، ونوفمبر 2022، انخفضت صادرات ألمانيا إلى روسيا بمقدار 29.‏1 مليار يورو، بنقص يبلغ 3.‏51 في المائة، وانخفضت الواردات من روسيا بمقدار 36.‏2 مليار يورو، بنقص يبلغ 4.‏59 في المائة. وتشير فيكس وكاب إلى أن ألمانيا التي كانت مقيدة عسكرياً، التزمت بإنفاق ما لا يقل عن 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي على الدفاع، وهو الهدف المعلن بالنسبة لأعضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وقدمت دعماً عسكرياً كبيراً لأوكرانيا. وتعتبر ألمانيا في الوقت الحالي ثاني أكبر دولة بالنسبة للمساعدات العسكرية لأوكرانيا في أوروبا بعد المملكة المتحدة. وعلى الرغم من شكوى بوتين من أنه بعد 80 عاماً من الحرب العالمية الثانية «يتعرض الروس للتهديد مرة أخرى من جانب دبابات (ليوبارد) الألمانية»، من المقرر أن ترسل ألمانيا وشركاؤها أول كتيبة دبابات «ليوبارد 2» إلى أوكرانيا بحلول أبريل (نيسان) المقبل، وسوف يتبع ذلك إرسال دبابات «ليوبارد 1» ذات الطراز الأقدم. واختتمت فيكس وكاب تقريرهما بالقول إن إساءة تقدير روسيا لموقف ألمانيا، وتحول ألمانيا، لهما دور مهم في حرب افترض كثيرون أنها سوف تنتهي بهزيمة أوكرانية سريعة. وقد تعرضت التزامات المستشار أولاف شولتس للانتقاد بسبب التردد، وبطء التنفيذ، والإذعان للقيادة الأميركية. ومع ذلك، فقد دحضت ألمانيا تماماً توقعات بوتين. وفي الحقيقة أدت حرب روسيا إلى أكبر تحول في السياسة الخارجية والأمنية الألمانية منذ نهاية الحرب الباردة.

الأزمة... والدور «المشلول» لمجلس الأمن

تسلَّحت روسيا بامتياز النقض (الفيتو) الذي ورثته عن الاتحاد السوفياتي السابق لمنع مجلس الأمن من اتخاذ أي موقف من غزوها

لأوكرانيا الشرق الاوسط... واشنطن: علي بردى... خلال عام كامل من أخطر أزمة يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، تسلَّحت روسيا بامتياز النقض (الفيتو) الذي ورثته عن الاتحاد السوفياتي السابق، لمنع مجلس الأمن -باعتباره الجهة المخولة صون الأمن والسلم الدوليين طبقاً لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها- من اتخاذ أي موقف من غزوها لأوكرانيا. جردته عملياً من الوظيفة الرئيسية التي أنشئ من أجلها. ولئن كان «الفيتو» الذي تحظى به الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، والصين، وروسيا، موضع شكوى قديمة من بقية الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة، فإن الانتقادات تتركز منذ أكثر من عشر سنين على استخدام روسيا الرئيس فلاديمير بوتين لهذا الامتياز، حتى قبل بدء «العملية العسكرية الخاصة» ضد أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022. حال الفيتو الروسي دون اتخاذ المجلس المؤلف من 15 عضواً قرارات حاسمة وملزمة لوقف الحرب السورية المتواصلة منذ 12 عاماً. بقيت الجمعية العامة التي يمكنها اتخاذ قرارات ولكن غير ملزمة، منتدى كبيراً للتنديد بروسيا وغزوها لأوكرانيا. لا شك في أن هذه القرارات تمثل «إدانة أخلاقية» تثير كثيراً من الإزعاج لروسيا، وتظهرها «معزولة» أو «منبوذة» على الساحة الدولية.

لا سكوت

منذ بدء الأزمة الروسية- الأوكرانية في فبراير 2014 حين انتزعت روسيا شبه جزيرة القرم بالقوة من أوكرانيا، عقد مجلس الأمن عشرات الاجتماعات المخصصة للتطورات على مستويات عديدة في الجمهورية السوفياتية السابقة. غير أن الأحداث المتسارعة التي قادت إلى دخول القوات الروسية إلى أجزاء واسعة من الأراضي الأوكرانية، بدءاً من 24 فبراير 2022، جعلت الحاجة إلى تحرك جدي في مجلس الأمن أكثر إلحاحاً بالنسبة إلى أوكرانيا، وداعمي احترام سيادتها على أراضيها. وإذا كانت الدعوة إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن، والتصويت على قرار يندد بالغزو، أمراً بديهياً، فإن «الفيتو» الروسي بدا حتمياً حتى بالنسبة إلى المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، التي أعلنت أن روسيا «لن تتمكن من إسكاتها». وبعدما أخفق القرار بسبب «الفيتو»، تباينت التفسيرات حول امتناع الصين والهند والإمارات العربية المتحدة عن التصويت. وقررت الدول الراعية للقرار نقله إلى الجمعية العامة. لم يكن الاجتماع والتصويت بعد أقل من 24 ساعة على بدء الغزو هو المحاولة الأولى لتعامل مجلس الأمن مع الأزمة المتصاعدة. سبقتها أربع جلسات: الأولى في 31 يناير (كانون الثاني)، وتلتها جلسة ثانية في 17 فبراير، ثم ثالثة في 21 فبراير، بطلب من كييف عقب قرار موسكو الاعتراف باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، ورابعة استثنائية في 23 فبراير بطلب من أوكرانيا أيضاً، بعدما طلبت سلطات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين مساعدة عسكرية من روسيا.

عزل روسيا

كان اللجوء إلى الجمعية العامة فور بدء الحرب مناسبة كرر فيها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن تصرفات روسيا تشكل انتهاكاً لسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، وتتعارض مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. عندما صار مجلس الأمن في وضع «مشلول»، تمكنت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية من فتح دورة استثنائية، تسمح بالعودة إلى الجمعية في أي وقت عملياً. ومع اقتراب الذكرى الأولى للغزو، عمم الدبلوماسيون الغربيون مشروعاً لقرار جديد على الدول الأعضاء، بهدف تأكيد الحاجة إلى «سلام عادل ودائم» لأوكرانيا. ويكرر القرار غير الملزم أنه «لن يتم الاعتراف بأي استيلاء على الأراضي ناتج عن التهديد باستخدام القوة على أنه أمر قانوني»، داعياً روسيا مجدداً إلى «سحب قواتها فوراً وبشكل كامل وغير مشروط» من أوكرانيا «داخل حدودها المعترف بها دولياً». ويكرر القرار الجديد أنه «بعد عام واحد من بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا»، فإن تحقيق «سلام شامل وعادل ودائم» سيشكل «مساهمة كبيرة في تعزيز السلم والأمن الدوليين».

قرارات سابقة

أما الهدف الرئيسي الآخر، فهو أن يفوز القرار بتأييد أكبر عدد ممكن من الأصوات، علماً بأن القرارين السابقين حصل آخرهما على 143 صوتاً في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، عند التصويت على قرار يندد بمحاولة بوتين «غير القانونية ضم أربع مناطق من أوكرانيا: دونيتسك وخيرسون ولوغانسك وزابوريجيا». ويطالب روسيا «بالانسحاب الفوري والكامل وغير المشروط» من أوكرانيا. وصوتت خمس دول ضد القرار، وهي: نيكاراغوا، وكوريا الشمالية، وروسيا، وسوريا، وبيلاروسيا، بينما امتنعت 35 دولة عن التصويت. ولم تصوت خمس دول. وكانت الجمعية العامة قد صوتت في مارس (آذار) الماضي على قرار يدين روسيا بأكثرية 141 صوتاً. واعترضت خمس دول، هي: بيلاروسيا، وإريتريا، وكوريا الشمالية، وروسيا، وسوريا، بينما امتنعت 35 دولة عن التصويت. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وافقت الجمعية على قرار يضع مساراً دولياً لتعويضات الحرب. وصوتت معه 94 دولة، مقابل اعتراض 14 دولة وامتناع 73 دولة عن التصويت. وطلب الجلسة الجديدة في ذكرى الحرب كل من: ألبانيا، وأستراليا، وبريطانيا، وكندا، وغواتيمالا، واليابان، ومولدافيا، وكوريا الجنوبية، وتركيا، وأوكرانيا، والولايات المتحدة، ووفد الاتحاد الأوروبي الذي يمثل 27 دولة.

إدانة أخلاقية

هناك اجتماعات أخرى سبقت ثم تلت عن حقوق الإنسان وضحايا الحرب؛ لكن كل الاجتماعات التي عقدها مجلس الأمن، بما فيها تلك التي حضرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لم تتمكن من اتخاذ أي موقف ذي مغزى. أما تلك التي شهدتها الجمعية العامة في الدورة الاستثنائية الحادية عشرة المخصصة لأوكرانيا، فليس لها حتى الآن سوى صدى للإدانة الأخلاقية ضد روسيا. بالإضافة إلى اعتبار الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها روسيا عن طريق التهديد بالقوة أو استخدامها غير قانونية، يتضمن القرار أحكاماً حول كيفية معاملة أسرى الحرب والمحتجزين، على وجه التحديد بما يتماشى مع اتفاقيات جنيف. وهي تتألف من أربع معاهدات، وثلاثة بروتوكولات إضافية جرى التفاوض عليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهي تضع المعايير القانونية للمعاملة الإنسانية خلال فترات النزاع المسلح. تجري عمليات تبادل لأسرى الحرب بين روسيا وأوكرانيا، مما يعكس كيف يمكن للجانبين الاتفاق على خطوة واحدة مثمرة.

أوروبا... تساؤلات حول مآلات الدعم لأوكرانيا

خلافات بشأن كيفية إنهاء الحرب... وتفعيل آلية السلام الأوروبية

الشرق الاوسط...باريس: ميشال أبو نجم... بعد عام من بدء «العملية العسكرية الخاصة» التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) من العام الماضي، حان زمن تقييم الدور الذي لعبه الاتحاد الأوروبي، ومدى قدرته على التمسك بموقف موحد في دعمه لأوكرانيا، رغم الانعكاسات الكثيرة التي عانى منها المواطن الأوروبي بسبب تبعات الحرب. وتمثلت هذه التبعات في كافة بلدان الاتحاد الأوروبي بالارتفاع الصاروخي للأسعار «الطاقة، المواد الغذائية، السلع الصناعية...»، وانتكاسة القدرات الشرائية، والتضخم الذي ضرب أرقاماً قياسية لم تعرفها أوروبا من 30 إلى 40 عاماً. وأفضت هذه التداعيات إلى تهميش شرائح واسعة من المجتمعات الأوروبية، واندلاع احتجاجات اجتماعية، واضطرار الحكومات إلى إقرار خطط عاجلة لدعم الفئات الأكثر تأثراً بتبعات الحرب. وقد نجحت دول الاتحاد الأوروبي، إلى حد ما، في احتواء النقمة الشعبية؛ إذ إن استطلاعات الرأي الأخيرة تبين أن أكثرية أوروبية ما زالت تؤيد توفير الدعم لأوكرانيا في حربها لمواجهة القوات الروسية. إلا أن هذا الدعم أخذ بالتراجع ولكن، حتى اليوم، ليس إلى درجة تثير قلق الحكومات. بيد أن اللجوء إلى التعميم يخفي خصوصية كل بلد وتحولات الرأي العام داخله، كما يستر الشقوق الكامنة بين السياسات الحكومية الأوروبية التي يعبر عنها قادة الاتحاد الأوروبي كمجموعة وأبرز مسؤولي دوله من جهة، وحال الرأي العام وتطلعات المواطنين من جهة ثانية. من هنا، تأتي أهمية الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة «إيفوب» الفرنسية في كافة بلدان الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى بريطانيا، لقياس حالة الرأي العام في مقاربة الملف الأوكراني. ويبين الاستطلاع تفاوتاً كبيراً؛ إذ بينما تحظى أوكرانيا بنظرة «إيجابية» للغاية في بلد مثل بريطانيا «82 في المائة»، و79 في المائة في بولندا، فإنها تهبط إلى 64 في المائة في فرنسا، وإلى 61 في المائة في ألمانيا. ويبين الاستفتاء بداية تعب الرأي العام من الدعم المتواصل لكييف، ويربطه بانعدام اليقين لجهة المدة الزمنية التي ستتواصل خلالها الحرب، ولكلفتها المادية، ولانعكاساتها على مستوى المعيشة في البلدان المعنية. ثمة ظاهرة أخرى برزت مؤخراً، وهي التساؤلات عن مستقبل ملايين الأوكرانيين الذين فروا إلى دول الجوار، حتى إن هذه المسألة أخذت تطرح في بولندا التي فتحت حدودها ومؤسساتها وبيوتها كافة بوجههم. يضاف إلى ما سبق تراجع نسبة التأييد لتواصل مد كييف بالسلاح ووجود فوارق حقيقية بين الدول الأوروبية، حيث إنه يتأرجح حالياً ما بين 80 في المائة في بولندا، و70 في المائة في بريطانيا، ويهبط إلى 54 في المائة في ألمانيا، و50 في المائة في فرنسا، ويصبح سلبياً في إيطاليا «49 في المائة». وفي الدول الخمس الرئيسية يتخطى التراجع نسبة 10 في المائة، قياساً على ما كان عليه في أشهر الحرب الأولى، وهو يناقض، إلى حد بعيد، التصريحات الرسمية الداعية إلى مد أوكرانيا بالسلاح ما دامت أنها بحاجة إليه، وطيلة المدة التي تحتاجها. بالمقابل ورغم التبعات المترتبة على فرض عقوبات قاسية على روسيا وانعكاساتها على الاقتصادات الأوروبية كافة، فإن الرأي العام الأوروبي ما زال يؤيد بقوة فرضها. رغم ما سبق، ورغم التمايزات التي يمكن رصدها بين بلدان الاتحاد الـ27، فإن الأوروبيين يعتبرون أنهم حافظوا بقوة على وحدتهم، وأنهم حتى اليوم نجحوا بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية والحلف الأطلسي ومجموعة الدعم الخمسينية لأوكرانيا التي شكلتها وتديرها واشنطن، في إفشال الخطط الروسية. وقالت مصادر دبلوماسية فرنسية رفيعة المستوى لـ«الشرق الأوسط» في معرض تقويمها للوضع الراهن: «لا أحد كان يتوقع أن ينجح الاتحاد الأوروبي في تحقيق ما أنجزه في الأشهر الـ12 المنقضية». فالأوروبيون قاموا بالكثير في موضوع الغاز والنفط «أوقف استيراد هاتين المادتين إلى حد بعيد عقوداً من الاعتماد الكبير على الغاز الروسي خصوصاً، ووضع حداً أعلى للأسعار»، وفرض عقوبات على هذا القطاع الحساس «وعلى قطاعات رئيسية غيره»، والاستمرار في ذلك وصولاً إلى الحزمة العاشرة من العقوبات، بل البحث في كيفية مصادرة الأصول الروسية الموجودة في البنوك الأوروبية؛ لإعادة إعمار أوكرانيا. يضاف إلى ما سبق، أن الأوروبيين شغلوا لأول مرة في تاريخ الاتحاد ما يسمى «آلية السلام الأوروبية» التي مكنت من تمويل جزء رئيسي من الجهد العسكري الأوكراني. وتبين الأرقام المتوافرة أن الأوروبيين وفروا حتى اليوم لأوكرانيا، وفي كافة القطاعات المدنية والعسكرية والإنسانية ما مجموعه 67 مليار يورو، من بينها 22 مليار يورو مخصصة للدعم العسكري. أما التحول الأكبر الذي تشدد عليه المصادر الفرنسية فإنه يتناول تخلي الأوروبيين التدريجي عن كل «التحفظات» التي كانت لديهم لجهة تزويد أوكرانيا بأنواع محددة من السلاح مخافة إثارة موسكو، واعتبارها أن الأوروبيين أصبحوا «طرفاً» في الحرب. واليوم، تبدو طويلة لائحة الأسلحة التي حصلت عليها القوات الأوكرانية والتي منعت عنها في البداية، وآخرها الدبابات القتالية الثقيلة، بل إن طلب كييف الحصول على طائرات غربية قتالية لا يواجه رفضاً بالمطلق، وإن دولاً مثل بولندا وهولندا وحتى فرنسا لا ترى وجود مانع مبدئي. ويكفي النظر إلى حالة ألمانيا وإلى المسار الذي قطعته من الرفض المطلق لتقديم أي سلاح إلى كييف في بداية الحرب، إلى قبول تزويدها بدبابات «ليوبارد 2» من ترسانتها الخاصة، وإعطاء الضوء الأخضر للدول التي تمتلك هذا النوع من الدبابات للإسراع في نقل بعضها إلى أوكرانيا؛ لتشكيل كتيبتين منها، قبل انطلاق الهجوم الروسي الكبير المنتظر بداية الربيع المقبل. وفيما تعاني الصناعات الدفاعية الأوروبية من نقص في الإنتاج للاستجابة لما تبتلعه الحرب، فإن الدول الأوروبية إرادياً وجماعياً تحث الخطى لفعل المزيد. وقد اقترحت المفوضية الأوروبية مؤخراً شراءً مشتركاً للذخائر من الصناعات الدفاعية على غرار ما حصل في شراء اللقاحات لمواجهة جائحة «كوفيد-19» ومتحوراتها. ثم إن الأوروبيين ومعهم بريطانيا والحلف الأطلسي يعملون منذ شهور على تدريب القوات الأوكرانية، وزيادة كفاءاتها القتالية، بحيث تسد النوعية الضعف العددي في مواجهاتهم الميدانية. لا تنحصر الإنجازات الأوروبية بما سبق. ذلك أنهم يرون أن نجاحاتهم متعددة، وأولها تمكنهم من عزل روسيا إلى حد بعيد على المسرح الدولي، وحجتهم في ذلك أن 4 دول فقط صوتت لصالحهم في الجمعية العامة للأمم المتحدة «كوريا الشمالية وإيران وسوريا وبيلاروسيا» لدى إدانة غزوهم لأوكرانيا، ولاحقاً لضم 4 مناطق من أراضيها. فضلاً عن ذلك، يتعين النظر إلى الجهود الغربية الساعية إلى إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة المسؤولين عن الحرب الروسية على أوكرانيا، وعن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية... ويرى الأوروبيون أيضاً أنهم لعبوا دوراً في إفشال الخطط العسكرية الروسية استراتيجياً وتكتيكياً. بيد أن افتخارهم الأهم، وفق ما قالته المصادر الدبلوماسية الفرنسية، أن الأوروبيين أفشلوا خطة الرئيس بوتين في نسف وحدة الموقف الأوروبي الذي نجح حتى اليوم في التوصل إلى سياسات موحدة إزاء روسيا في كافة المجالات، رغم بعض الفروق الفردية كموقف المجر من مسألة العقوبات. ويتوازى الفشل الروسي أوروبياً مع فشله أطلسياً؛ إذ يعتبر المراقبون أن الهجوم على أوكرانيا أعاد إبراز أمرين؛ الأول: أهمية الحلف الأطلسي كمظلة أمنية للغرب بوجه التوسع الروسي، والثاني: القيادة الأميركية المتجددة للحلف بعد أن ضعفت قبضة واشنطن عليه. لكن هذا لم يمنع من استشعار الأوروبيين الحاجة إلى دفاع أوروبي قوي، وزيادة الإنفاق العسكري ليصل إلى 2 في المائة من الناتج المحلي كعتبة أولى. وليس أدل على فائدة الحلف الغربي اليوم من أن دولاً محايدة تقليدياً، مثل السويد وفنلندا، تريد الانضمام إليه للتمتع بما يوفره من ضمانات أمنية ومن مظلة نووية. تبقى مسألة كيفية وضع حد لهذه الحرب ووفق أي شروط وظروف. وجاءت تصريحات الرئيس ماكرون الأخيرة التي قال فيها: «أريد هزيمة روسيا في أوكرانيا، وأن تتمكن من الدفاع عن مواقعها لكنني مقتنع في نهاية المطاف أن الحرب ستنتهي على طاولة المفاوضات ولا أعتقد، كما يرى البعض، أنه يتعين إلحاق هزيمة تامة بروسيا أو مهاجمة أراضيها. هؤلاء يريدون سحق روسيا، وهذا لن يكون موقف فرنسا أبداً». ورؤية ماكرون كما شرحها لدى عودته من المشاركة في مؤتمر ميونيخ للأمن أن «المطلوب اليوم أن تقوم أوكرانيا بهجوم يضعضع الجبهة الروسية، بحيث تدفع موسكو للعودة إلى طاولة المفاوضات». ومن جانبه، يرى المستشار الألماني أنه «لا يتعين أن تربح روسيا الحرب». وفي الحالتين يعد هذا الموقف بمثابة «الحد الأدنى» على المستوى الأوروبي، فيما مواقف أخرى «بولندا، دول بحر البلطيق...» أكثر جذرية وتريد إلحاق هزيمة مدوية بروسيا، بحيث لن تفكر بعد ذلك بمهاجمة جيرانها أو تهديدهم. لكن الموقف الأوروبي الجماعي يقول بمواصلة دعم أوكرانيا لاستعادة أراضيها وسيادتها، ويعود إليه أن تقرر إذا رغبت بالتفاوض ومتى ووفق أي شروط. بيد أن الأوروبيين لا يملكون الورقة الحاسمة الموجودة في واشنطن، الداعم الأكبر، كما أنه ليس من المؤكد أن زيلينسكي جاهز للاستماع للنصائح الأوروبية.

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,400,586

عدد الزوار: 6,948,441

المتواجدون الآن: 81