ـ الحلقة (1): سهولة الطريق للثورة.. ووعورة الطريق للدولة

تاريخ الإضافة الجمعة 17 نيسان 2009 - 11:19 ص    عدد الزيارات 8039    التعليقات 0

        

 

إيران: 30 عاما على الثورة ـ الحلقة (1): سهولة الطريق للثورة.. ووعورة الطريق للدولة
إيران تدخل العقد الثالث من ثورتها.. وتتذكر «الأيام الأولى» التي صاغت شكل الدولة الإيرانية
منال لطفي
لا يقيس الإيرانيون الزمن.. بالساعات والأيام والشهور والسنين، بل بالعقود والقرون.. ففي بلد يعود تاريخه إلى ألفي عام أو أكثر، لا يعني مرور 30 عاما شيئا من الناحية التاريخية. وبالتالي يشعر بعض الإيرانيين بعدم الإنصاف حيال محاولات تقييم الثورة الإيرانية في ذكرى مرور 30 عاما على قيامها، ففي رأيهم «الثورة ما زالت في أيامها الأولى» وما سيترتب عليها للإيرانيين والمنطقة والعالم لم يتبلور كليا بعد. لكن الوقوف أمام الثورة الإيرانية حتمي، فالثورة غيرت الكثير في إيران. يكفي اليوم أن الإيرانيين لا يحتفلون إلا بنوعين من الأعياد. الأعياد الوطنية، والدينية الإيرانية التي يعود تاريخها لنحو ألف عام أو أكثر (مثل الاحتفالات برأس السنة الفارسية أو عيد النوروز، وعيدي الفطر والأضحى، والتاسع والعاشر من محرم ذكري مقتل الإمام الحسين بن على، أو عاشوراء)، والأعياد المرتبطة بقيام الثورة الإيرانية (مثل ذكرى انتصار الثورة الإيرانية، وذكرى اختيار النظام الجمهوري الإسلامي).. وما بين ذلك كأنه لم يوجد. غير أن تأثيرات الثورة الإيرانية تتجاوز «رمزية» الأعياد التي يتم الاحتفال بها إلى كل شيء تقريبا؛ من طبيعة النظام السياسي وشكل الدولة، إلى الحريات في الشارع.. من علاقة طهران بحوزة قم إلى علاقة البازار بصناعة القرار السياسي والنخبة الإيرانية الجديدة. وفي هذه الحلقات تقدم «الشرق الأوسط»، من خلال مقابلات مع مسؤولين حاليين وسابقين، ومفكرين وشهود عيان من إيران ولبنان والعراق وأميركا، شهادات حول الظروف التي قادت للثورة، والخلافات التي نشبت بين أطيافها المختلفة، وكيف أثرت هذه «الولادة المتعثرة» لدولة الثورة على طبيعة الدولة الإيرانية اليوم.. ومستقبلها. توفي آية الله الخميني يوم السبت 3 يونيو عام 1989 عن 87 عاما وتسعة أشهر. وفي مبني البرلمان الإيراني لم يقرأ أحمد الخميني وصية والده، بل قرأها «الولي الفقيه الجديد» آية الله علي خامنئي، الذي كان حجة الإسلام، وتم رفعه لمرتبة آية الله لشغل منصب المرشد الأعلى وقائد الدولة بعد الخميني. كانت هناك صورة كبيرة للخميني موضوعة على المنصة التي كان خامنئي يقرأ منها، وفوق الصورة شريط حداد أسود كبير، ولافتة سوداء مكتوب عليها «إنا لله وإنا إليه راجعون» باللغة العربية، فيما تناثرت الأزهار الملونة حول الصورة. قرأ خامنئي وصية الخميني الأخيرة وهى: «بفؤاد هادئ، وقلب مطمئن، وروح مسرورة، وضمير أمل بفضل الله، أستأذن الأخوات والأخوة وأسافر نحو المقر الأبدي، وإني في حاجة مبرمة إلى دعائكم بالخير. وأسأل الله الرحمن الرحيم أن يقبل عذري في نقص الخدمة، والقصور، والتقصير. وآمل من الشعب أن يتقبل عذري في النقائص والقصور والتقصيرات. وأن يمضوا قدما بقوة وتصميم وإرادة ليعلموا أن ذهاب خادمهم لا يجب أن يؤدي إلى خلل في مناعة الشعب الحديدية، فإن خداما أفضل يخدمون الآن. والله حافظ هذا الشعب ومظلومي العالم. والسلام عليكم عباد الله الصالحين». خلال قراءة خامنئي للوصية توقف 3 مرات باكيا غير قادر على مواصلة القراءة، أما هاشمي رفسنجاني فكان وجهه مغطي بكفى يديه ومنديل. لم يكن من السهل رؤية ملامح وجهه. جاءت وفاة الخميني بعد نحو 10 أعوام من الثورة الإيرانية عام 1979، التي وصفت بأنها ثالث أبرز الثورات في التاريخ الحديث بعد الثورة الفرنسية عام 1789 (أول ثورة ليبرالية) والثورة البلشفية في روسيا عام 1917 (أول ثورة شيوعية في القرن العشرين)، ثم الثورة الإيرانية11 فبراير 1979. فوجئت قيادات الثورة الإيرانية من التيارات الإسلامية والوطنية واليسارية والقومية بـ«سلاسة الطريق» للثورة، مع تحرك الشارع الإيراني بالملايين لدعمها، إلا أنهم فوجئوا أيضا بـ«وعورة الطريق» للدولة. ففي الأيام والأشهر الأولى بعد نجاح الثورة الإيرانية شهدت إيران حربا تشبه «حرب الشوارع» بين أنصار التيار الديني من الشباب المعممين وأنصار التيارين الليبرالي واليساري من الشباب الذين يضعون في غرفهم صور شي جيفارا وشعار الاتحاد السوفياتي السابق «المطرقة والسندان». قتل خلال «حرب الشوارع» هذه عدد كبير جدا من عناصر الثورة، ونحو 70% من قيادات الحلقة الضيقة التي كانت تحيط بالخميني من تلاميذه ومرافقيه عندما كان منفيا في تركيا أو العراق أو فرنسا. «مرارة» تلك الأيام لا تزال حاضرة حتى اليوم، و«الشكوك» التي زرعتها بين أطياف الثورة الإيرانية ما زالت أيضا حاضرة وماثلة. ويقول إبراهيم يزدي وزير الخارجية الإيراني في حكومة مهدي بازوكان رئيس وزراء أول حكومة بعد نجاح الثورة لـ«الشرق الأوسط» إن المشكلة كانت أن كل القوى كانت متفقة على هدف التخلص من الشاه، لكنها كانت مختلفة على كل شيء بعد ذلك، على نوع الدولة وعلى دستورها وعلى قوانينها الحاكمة وعلاقاتها الخارجية. ويوضح يزدي لـ«الشرق الأوسط»: «أثناء الثورة، كانت جميع الأحزاب والفصائل السياسية، اليمينية أو اليسارية، الدينية أو غير الدينية، متفقة على ما لا تريده، وهو: أن الشاه يجب أن يغادر، وأنه تجب الإطاحة بنظام حكم الشاه الاستبدادي.. ولكن لم يكن هناك مثل هذا الإجماع في مواقفهم المتعلقة بالبديل الذي سيحل مكان نظام الشاه. ولهذا، بدأ الخلاف على الفور بعد الثورة.. كان رئيس الوزراء بازركان وزملاؤه في مجلس الوزراء يعتقدون أن المرحلة المدمرة أو السلبية في الثورة انتهت، وأنه يجب البدء في مرحلة البناء أو المرحلة الإيجابية. ولكن في المرحلة الثانية من الثورة، كانت أهدافها الإيجابية أصعب في تحقيقها. وكانت تحتاج إلى الكثير من التخطيط، ولم يكن ممكنا تحقيقها بسرعة، وكان تنفيذها يحتاج إلى نظام. ولكن كان المناخ السياسي فيما بعد الثورة مشتعلا بشدة، وكان صوت العقل والمنطق غائبا». هذه الاختلافات بين الجناح الديني من الثورة الإيرانية والجناح الليبرالي واليساري، والتي تحولت إلى مواجهات ثم إلى صراعات، وأدت إلى تهميش التيار الليبرالي والوطني الذي كان قطبا فاعلا في الثورة، أثرت على الطريقة التي تكونت بها «دولة الثورة» منذ ذلك الحين وحتى اليوم. ورمزيا فقط تكفي الإشارة إلى أنه حتى اليوم لا يوجد في إيران شارع باسم «محمد مصدق» زعيم الجبهة الوطنية الإيرانية، والأب الروحي للتيار الليبرالي الوطني في إيران، الذي ما زالت صوره معلقة في منازل كثير من الإيرانيين حتى اليوم بوصفه رئيس الوزراء المنتخب، بين أعوام 1951 و1953، الذي أمم صناعة النفط الإيرانية، حتى قامت الاستخبارات الأميركية بالإطاحة به في انقلاب أعاد الشاه للحكم. هذه الخصومة «الرمزية» بين التيار الديني من ناحية، والتيار الوطني الليبرالي من ناحية أخرى، بدأت بعد نجاح الثورة الإيرانية مباشرة، فبعدما سمى «شارع بهلوى» بـ«شارع محمد مصدق» بعد نجاح الثورة عام 1979، تم تغيير اسم الشارع من «محمد مصدق» إلى «ولي عصر»، أي ولي الزمان أو الإمام الغائب. وفي طهران، التي تحمل غالبية شوارعها أسماء شهداء، مثل شارع «الشهيد قرني» (أحد قادة ساباه باسداران خلال الحرب الإيرانية - العراقية)، وشارع «الشهيد همت» (أحد أبرز قادة الحرب مع العراق)، وشارع «الشهيد مفتح» (رمز العلاقة بين الجامعة والحوزة العلمية والثورة)، والذي باسمه أيضا محطة للمترو في طهران وهي «ايستكاه مترو شهيد مفتح»، ومكتبة هي «كتابخانة شهيد مفتح» في طهران، وشارع «الشهيد مطهري» (أحد تلاميذ الخميني وأحد منظري الثورة)، وشارع طالقاني (أحد أبرز منظري الثورة الإيرانية) وشارع الملا الصدر (موسى الصدر). وشارع «هفتي تير» (الذي سمي لإحياء ذكري مقتل آية الله بهشتي، تلميذ الخميني وصديقه، في 28 يونيو 1981)، ليس هناك شارع «محمد مصدق».. على الرغم من أنه خلال الأيام الأخيرة من حكم الشاه، كان المتظاهرون يخرجون مرددين «نصر من الله.. مردم شاه» أى الموت للشاه، وهم يحملون صور الخميني ومصدق جنبا إلى جنب. لكن هذه «الخصومة الرمزية» لم تكن إلا انعكاسا لخصومة حقيقة كانت قد بدأت تظهر على الأرض بين التيارات الفكرية والسياسية للثورة حتى قبل فترة طويلة من نجاحها عام 1979. وما بين ليلة شديدة البرودة في 1 فبراير عام 1979، عندما خرج نحو 3 ملايين شخص لاستقبال الخميني، وبين ظهيرة شديدة السخونة في يونيو 1989 عندما خرج نفس العدد تقريبا لوداعه، شهدت إيران تعرجات عديدة مرت بها دولة الثورة من دستور ليبرالي إلى ولاية الفقيه، ومن حوار مع أميركا بدأ منذ أن كان الخميني في باريس، إلى قطيعة مع أميركا بوصفها «الشيطان الأكبر». يتذكر محمد على مهتدي يوم عودة الخميني لطهران يوم 1 فبراير 1979، فهو كان صحافيا في التلفزيون الإيراني (اليوم مسؤول الأخبار الدولية في صحيفة اطلاعات الإيرانية). كان مهتدي مؤيدا للثورة، ومتحفزا لنجاحها. كانت أجواء ترقب متفائل، وشعور جماعي بالقدرة على التغيير، تحرك الناس في مسيرات جماعية حاشدة جعلت شاه إيران وكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين غير قادرين على مواجهة المد. ويقول مهتدي لـ«الشرق الأوسط»: «كانت الشوارع لا تخلو من المظاهرات، من شوارع طهران إلى أصفهان إلى شيراز ومشهد. لكن الثورة كانت مفاجئة مع ذلك. لم يتوقع أحد نجاحها بهذه السرعة». ويتابع مهتدي: «بعض الناس ربما كانوا يتوقعون أن نصل إلى مرحلة عمليات عسكرية وثورة مسلحة. ربما هذه الثورة المسلحة تأخذ أشهرا أو سنين. كانت هناك خطط لعمليات حرب عصابات. وحده الخميني كان متأكدا أن هذه الثورة ستنتصر من خلال حركة شعبية، وليس من خلال حرب عصابات أو عمليات عسكرية». صبيحة يوم الجمعة 8 سبتمبر 1978 خرج الآلاف في مظاهرة بطهران، وأمر حاكم طهران العسكري بإطلاق النار على المتظاهرين فقتل 4 آلاف (وسمى «الجمعة السوداء» في أدبيات الحركة الإسلامية في إيران)، فخرج الناس يرددون: «سنقتل سنقتل من قتل إخوتنا»، وزاد وضع الشاه حرجا وهشاشة. ثم كانت استراتيجية الخميني، من منفاه في باريس، بتحييد الجيش الإيراني. وكان شعار الخميني: "«لا تهاجموا الجيش في صدره، بل هاجموه في قلبه»، أى خاطبوا قلوب جنوده وقادته. فخرجت مظاهرات بأزهار وورود لتوضع في فوهات الرشاشات، مع شعارات: «أخى في الجيش لماذا تقوم بقتل أخيك». وبالتالي لما دعا الخميني الجنود والقادة لترك الجيش والتخلي عن أسلحتهم وثكناتهم، كانت الاستجابة التي غيرت مسار إيران، فالجيش كان القاعدة الوحيدة التي بقيت للشاه بعدما فقد البازار والطبقة الوسطى والطلاب والحوزة الدينية والفقراء. دعا الخميني البازار إلى الإضراب، فأضرب الجميع بسبب العلاقة التقليدية الوثيقة بين البازار والحوزة في قم. وأصاب إيران الشلل التام. ثم دعا عمال النفط لوقف التصدير، والإنتاج فقط بما يكفي لسد حاجة الإيرانيين اليومية. فقال الشاه لعمال النفط: سنطردكم ونأتي بعمال أجانب بدلا منكم. فرد الخميني بفتوى تبيح هدر دم العمال الأجانب، وأمر بدفع رواتب عمال النفط من الأموال الشرعية، أى الخمس لمرجع التقليد. قام الطلبة بإحراق المصالح الأجنبية في إيران، كالبنوك وشركات الطيران والشركات. وأخيرا أعلن الخميني تنظيم إضراب كبير في ذكرى عاشوراء يكون بمثابة رسالة أخيرة للشاه. فأعلن رئيس الحكومة العسكرية الإيرانية أزهري، إلغاء الاحتفال بذكرى عاشوراء حتى في المساجد، وحظر التجول. فرد الخميني بدعوة الإيرانيين للتظاهر من على أسطح المنازل. وعندما ألغت الحكومة العسكرية حظر التجول خرج الإيرانيون بعشرات الآلاف وهم يرددون «أيها الشاه الخائن. نحن جاهزون للقتال.. لقد دمرت هذا البلد. وقتلت شباب هذا البلد». فرد الشاه بخطاب متلفز قال فيه إنه لن يكرر أخطاء الماضي، وسيعين حكومة وطنية في أسرع وقت تقوم بتحقيق الحريات الأساسية، وإجراء انتخابات حرة. حل الشاه الحكومة العسكرية وعين حكومة من الجبهة الوطنية المعارضة التي اختارت شاهبور باختيار، أحد قادتها لرئاستها، لكن كانت المفارقة أن الإعلان عن حكومة بختيار تم في واشنطن وعلى لسان الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وليس من طهران أو على لسان الشاه. وكان أول قرار لحكومة بختيار هو أن يغادر الشاه إيران، ومن مطار مهر أباد قبل مغادرته طهران، قال الشاه آخر عبارة له في إيران: «قلت إنني محتاج إلى راحة. وكنت في انتظار أن تستقر أحوال البلاد». غادر الشاه إيران، وكان يعتقد أنه سيعود عندما تهدأ الأوضاع على يد بختيار. إلا أن الخميني دعا الإيرانيين إلى مواصلة حركتهم وإسقاط بختيار نفسه. فخرج الناس في الشوارع تردد «الموت لبختيار» لينقلب الخميني على الحركة الوطنية. ويعلن أنه سيعود إلى إيران لتشكيل حكومة أخرى مختلفة. قرار عودة الخميني باغت بختيار، وكان يعرف أن الهوة كبيرة بينه وبين الخميني وآيات الله، فقرر أن يغلق مطارات طهران لمنع الخميني من العودة، قائلا قبل أيام من الإطاحة به: «أن تكون هذه الدولة جمهورية أو إسلامية أو ديمقراطية أو سلطنة أو ديكتاتورية أو فاشية، فهذا أمر، والذي يحصل في الشارع أمر آخر. عندما يأتي آية الله الخميني إذا كان لديه برنامج يطرحه أو آراء يدلى بها، فسنصغي إليه بكل احترام، لكن إذا أراد أن يصبح رئيسا للوزراء أو ما شابه، فإني مرتاح للغاية في مكاني هذا». خرج الناس في الشوارع يرددون «بختيار بختيار بختيار.. الفرار الفرار الفرار»، ففي نظر الكثيرين كان بختيار معينا من قبل الشاه وهذا لا يكفي لشرعيته. عندما حاول الخميني العودة مجددا لطهران، كانت كل مطارات إيران أغلقت، إلا أن الفرنسيين سمحوا له باستخدام مطار «شارل ديغول» وباستئجار طائرة إيرباص بعدما دفع له أحد الإيرانيين تأمينها. أقلعت الطائرة وعلى متنها أعضاء مكتب الخميني وعائلته وصحافيين من المقربين منه في باريس، وهم غير واثقين تماما من قدرتهم على الهبوط في إيران، لكن السلطات الجوية الإيرانية سمحت للطائرة بالهبوط في مطار «مهر أباد». عاد الخميني وقال إن السلطة من حق «الفقيه» الذي تتوافر فيه الشروط. وفي خطابه وبعد دقائق من عودته لإيران قال: «أنا سأعين الحكومة.. سأعين الحكومة بدعم هذا الشعب لي. إن الشعب يريدني. بختيار يقول إنه لا يمكن أن تكون هناك حكومتان في بلد واحد. وهذا أمر واضح. أنا أقول إنه لا يمكن أن تكون هناك حكومتان في بلد واحد. لكن يجب أن تذهب الحكومة غير الشرعية. إنك (بختيار) غير قانوني. الحكومة القانونية هي التي تعتمد على آراء الناس، القائمة على حكم الله. عليك أن تعين من قبل الله أو من قبل الشعب». ذهب بختيار، لكن الحكومات المدنية اللاحقة لم تكن أسعد حظا. فـ«دولة الثورة» لم تكن «مثالية» كما كان يتصور صانعوها، سواء من قيادات التيارات الليبرالية والدينية واليسارية، أو صانعوها من الإيرانيين العاديين.. فنجاح الثورة كان أمرا سهلا مقارنة ببناء دولتها، خاصة أن منظريها من التيار الديني لم يكن لديهم تصور محدد حول شكل الدولة. ويقول هاني فحص، الذي كان قريبا من الخميني ومن الثورة الإيرانية قبل وبعد نجاحها، حيث عمل مع هاني الحسن، الذي كان سفيرا لفتح لدى إيران، كحلقة وصل بين الثورة الإيرانية والثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، إن الخميني في البداية «لم يكن لديه مشروع سياسي محدد»، كان في الأساس رجل دين يعارض سياسـات الشاه.
ويوضح فحص لـ«الشرق الأوسط»: «كان يرى أنه معني بالجانب القيمي من الدين وحياة الناس ومن دون أن يكون بالضرورة حاملا لمشروع سياسي بديل.. لو قرأنا الرسالة العملية، أي المدونة الفقهية التي حررها الخميني لتكون دليلا عمليا لأتباعه ومقلديه إلى فتاواه في المعاملات (تحرير الوسيلة) وقارنا كثيرا من مضامينها وفتاواها الصريحة بما حدث بعد ذلك في الثورة والدولة تحت نظره لأصابنا العجب، فالرسالة غير ثورية وتقليدية جدا في أمور حساسة وكثيرة، من صلاة الجمعة إلى مسألة الاحتكار. ومسلك الخميني بعد الثورة مختلف عن نهجه فيها، وهو لا يعدو أن يكون في هذه الرسالة محرضا فقهيا على المعارضة ومقاومة الجور والظلم، قدم مجموعة من الأدبيات الفقهية السياسية التعبوية ليس إلا، بينما نجده في خطبه اللاحقة والمحررة مباشرة للثورة وقد انتقل إلى ملامسة مختلفة للقضايا والتحديات المطروحة». ويتابع فحص: «أعتقد أن الخميني كان على شيء من الحيرة عندما انتقل من الثورة إلى الدولة، لأن الأســئلة تغيرت والقوى تمايزت والوقائع ألحت والمشاكل تفاقمت. لقد تحول الإمام من حالته الثورية التي تقوم على التركيز على حرية الاجتماع مع الدولة، إلى القول والعمل على شمولية الدولة.. إلى حد إمكان تعطيل الأحكام لصالح ضرورات الدولة. في قناعتي أن الخميني كرجل دين وكثوري كان أجمل، ولكن كرجل دولة كان أشد تــركيبا، لأنه أصبح أشد تعقيدا. وأذكر وأتذكر أن الخميني كان من أول يوم للبدء في بناء الدولة حتى آخر يوم في حياته مختلفا في قناعته ورؤيته وطموحاته عن المتحقق، كما يختلف المثال عن الواقع، من دون أن يفصل الواقع أو يتنكر له». عندما يتجمع الآلاف في شوارع طهران اليوم إحياء لذكرى الثورة، سيكون هناك إحساس بأن مجرد «صمودها» إنجاز في حد ذاته، كما يعتقد محمد على مهتدي، لكن آخرين، حتى من المؤيدين للثورة، لا يرون هذا، فالكثيرون يعتقدون أن دولة الثورة «قاصرة» أمام الشارع.
الحلقة (2) : الآباء الروحيون لـ «روح الله».. ومعركة الإرادات بين الشاه والحوزة..... بدأ الصراع بين «كرسي الملك».. و«كرسي المرجعية» منذ ثورة المشروطية 1906.. إلا أن الخميني نقله من الحوزة إلى الشارع..... منال لطفي
يقول الصحافي الفرنسي إيريك رولو الذي كان يعمل صحافيا في صحيفة «لوموند» الفرنسية إنه في إحدى المقابلات مع شاه إيران سأله عن البيان الذي أصدره آية الله الخميني لانتقاد البذخ في احتفالات مرور 2500 عام على حكم الشاهنشاهية، فرد الشاه غاضبا: من هو الخميني حتى أرد على السؤال. فقال له رولو: هذا مجرد سؤال صحافي.. وهناك بيان نشر من الخميني وأنا فقط أسألك رأيك. فقال له الشاه: أنا لن أرد على السؤال لأن الخميني ليس إيرانيا ولا فارسيا. هذا هنديا. وأنا لا أرد على الهنود. تلخص هذه الرواية الصراع الذي بدأ يطفو على السطح بين «كرسي الملك» في إيران و«كرسي المرجعية». تاريخيا كانت المرجعية الدينية في «قم» لها صوتها واستقلالها، إلا أن هذا الصوت وهذه الاستقلالية لم تقف يوما مهددة «كرسي الملك»، وبالتالي عندما شعر محمد رضا شاه بالخطر، لم يكن أمامه إلا محاولة التخلص من «كرسي المرجعية» بمحاولة نقله من قم إلى النجف. وكانت الظروف مواتية فقد كانت حوزة قم بلا مرجعية واضحة بعد وفاة آية الله البرجردي، وكانت قم منقسمة على نفسها فيما يتعلق بطريقة التعامل مع تصرفات الشاه، فيما اسم الخميني يصعد خصوصا وسط تيار من طلبة الحوزة يريد الانشغال بالسياسة، بل وحتى العمل المسلح. يقول المفكر هاني فحص، الذي كان همزة الوصل بين الثورة الفلسطينية والثورة الإيرانية وشاهد عيان على الكثير من تطورات تلك المرحلة في إيران، إن الخميني في انشغالاته السياسية لم يكن يشكل خروجا على المألوف وسط الحوزة، غير أن ما تميز به هو أنه وتدريجيا طور «مشروعا سياسيا» لحركته الاحتجاجية، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن الإمام الخميني استثناء أو شاذا عن قاعدة رجال الدين في قم خاصة وفي إيران عامة من حيث انشغاله بالسياسة واشتغاله عليها. ونحن نتذكر أن الثورة الدستورية) أو ما سمى بالمشروطية) في العقد الأول من القرن الماضي كانت قيادتها في إيران من رجال الدين وخريجي حوزة النجف، وبعدها كانت حركة آية الله المدرس، وحركة آية كاشاني وشراكته في الانقلاب الأول على الشاه مع محمد مصدق ورفاقه. إلى ذلك فقد كانت الانطلاقة في الثورة الدستورية من النجف وبقيادة كبار المجتهدين الإيرانيين، كما كانت معارضتها منهم. ولا يمكن إنكار مشاركة علماء من أصول إيرانية في ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال الإنجليزي. ومن الطبيعي أن نأخذ في اعتبارنا اللحظة التاريخية بكل تفاصيلها، وشخصية الخميني ودور هذين الأمرين في إقدام الخميني على اتخاذ موقفه المعارض علنا ليكون بما ترتب عليه.. بداية في حركة انتهت بالثورة وإسقاط النظام. وفي محددات اللحظة كان هناك ما سمي بالثورة البيضاء أو الإصلاح الزراعي على طريقة الشاه، والتي أعادت أو جددت تمركز الملكيات الزراعية على حال من الجمع العشوائي بين الأسلوب الإقطاعي، وطموحات برجوازية مستجدة وطفيلية إلى الثروة والسلطة. وقد أدى هذا التركيب الهجين إلى مزيد من التردي في الإنتاج الزراعي ومستوى معيشة الفلاحين والهجرة الريفية في المدينة، مترافقا مع إطلاق يد الشركات الاستثمارية الأجنبية في السيطرة على دورة الإنتاج والسوق، وفي طليعتها الشركات الأميركية مع شراكة واسعة لإسرائيل، كادت أن تطال كل شيء، في مصادر الثروة الوطنية وحركتها لتصبح عملية النمو مرتهنة بالكامل. ما ذكر الإيرانيين بقضية شركات احتكار التبغ والتنباك الإنجليزية في أواخر القرن التاسع عشر بعد سلسلة من الأنشطة الاحتكارية بدءا من الهاتف والبريد. وذكرهم بأن رجال الدين وعلى رأسهم الميرزا محمد تقي الشيرازي هم الذين تصدوا لهذه المسألة وقادوا بالفتاوى حركة شعبية أدت إلى توقيف العملية». وقوف الخميني إذن معارضا علنيا للشاه كان استمرارا لتقاليد آيات الله في قم بدءا من الميرزا محمد تقي الشيرازي في القرن التاسع عشر وحتى آية الله الحائري وآية الله البرجردي في منتصف القرن العشرين. وفيما كان لكل منهم أسلوبا في المعارضة، إلا أن ما جمع بينهم هو أنهم أبقوا هذه المعارضة في قلب «قم»، فيما خرج بها الخميني إلى شوارع طهران ومشهد وأصفهان وشيراز. لكن ممارسات «اعتراض» الشاه كانت دائما موجودة في قم، ففي مطلع القرن العشرين كانت إيران خاضعة شكليا لحكم الأسرة القاغارية، إلا أنها فعليا كانت خاضعة للنفوذ الروسي في شمال إيران والبريطاني في جنوب إيران حيث حقول النفط. وكانت فترة صعبة اقتصاديا واجتماعيا. كانت الناس تذهب يوميا إلى مراجعها الدينية في المدن الإيرانية المختلفة تشتكي لها صعوبة الأحوال الاقتصادية، وتحالف الإقطاعيين مع النفوذين الروسي والبريطاني. فتبلورت حركة احتجاج من رجال الدين عام 1906 (عرفت باسم ثورة المشروطية) ضد الحكم القاغاري والنفوذ الروسي والبريطاني. واستطاع الشيخ فضل الله نوري، أحد كبار المرجعيات في قم في ذلك الوقت، تقييد سلطة الملك القاغاري مظفر الدين شاه وإلزامه بدستور مكتوب هو دستور عام 1906. وكان عدد من أساتذة الخميني في «المدرسة الفيضية» في حوزة «قم» من قادة «ثورة المشروطية» من أمثال آية الله التبريزي وآية الله أبادي وآية الله الخونساري، وكان لهذا تأثير على الخميني، الذي كان يغادر دروس الحوزة في «قم» ويتوجه إلى البرلمان الإيراني في طهران في العشرينات من القرن الماضي لسماع مداخلات آية الله حسن المدرس أحد أبرز وجوه المعارضة الدينية والسياسية في ذلك الوقت. (لما أُعلنت ثورة المشروطية في إيران، طلب علماء الدين من رضا خان من الأسرة القاغارية أن يحد من النفوذ الروسي والبريطاني وأن يقبل تقييد سلطاته. وكان من بينهم آية الله المدرس الذي عرف بلسانه اللاذع إذ قال مرة لرضا خان: «أنت إنسان همجي، ما شأنك وشأن السياسة، اذهب وفتش عن عمل يناسبك». وقد حاول رضا خان اغتيال آية الله المدرس في أصفهان، مسقط رأسه، لكن المحاولة باءت بالفشل، ثم تكررت محاولة الاغتيال في طهران حيث هاجمه نحو 10 مسلحين، إلا أنه لم تصبه إلا أربع رصاصات جاءت كلها في اليد). وبعد الحرب العالمية الأولى عينت بريطانيا التي اتسع نفوذها في إيران بعد انتصارها في الحرب حكومة جديدة عام 1919 برئاسة سياسي إيراني اسمه «وفوق الدولة» في ظل حكم الأسرة القاغارية، ووقع وفوق الدولة اتفاقية مع بريطانيا تقضي بإدارة الشؤون العسكرية والمالية تحت إشراف مستشارين بريطانيين. لكن وقف آية الله المدرس ضد هذه المعاهدة وضغط على الملك القاغاري لرفض الضغوط الانجليزية. فتصاعدت الخلافات وقام الإيرانيون بحركات احتجاجية في الشمال والجنوب. فاستقال وفوق الدولة، وعينت بريطانيا ضياء الدين الطباطبائي رئيسا للوزراء، فاتفق الطباطبائي مع الضابط في الجيش البريطاني ورضا شاه وزير الدفاع الإيراني آنذاك على احتلال طهران، وسجن المعارضين ومن بينهم آية الله المدرس، رئيس كتلة طهران في البرلمان الإيراني. وبعد 3 أشهر فقط استقال ضياء الدين وحل محله رضا شاه على رأس الحكومة ثم انقلب على الملك القاغاري أحمد شاه وأعلن نفسه ملكا على إيران 1926 لينتهي عصر الأسرة القاغارية ويبدأ عهد الأسرة البهلوية. خلال حكمه (1926- 1941) تأثر رضا شاه كثيرا بتجربة مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، فمنع مجالس العزاء الحسينية في إيران، وفي عام 1935 منع علماء الدين من ارتداء العمامة، وفي عام 1936 فرض نزع الحجاب، ثم ألغى العمل بالتقويم الهجري، وعطل مراسم العزاء في عاشوراء، كما عطل خطبة صلاة الجمعة، وفرض الخدمة العسكرية على طلبة العلوم الدينية. إلا أن رضا شاه وخلال الحرب العالمية الثانية دعم ألمانيا التي خسرت الحرب وتكبدت إيران خسائر فادحة. واجتاحت دول الحلفاء إيران من الشمال والجنوب، وسقطت طهران عام 1941 في أيدي الحلفاء واتخذت بريطانيا قرارا بعزل رضا شاه عن عرش إيران ونفيه لإيطاليا وتعيين ابنه محمد رضا شاه ملكا. ووسط كل هذه الأحداث كانت حوزة قم تحت زعامة آية الله الحائري في قلب الحدث السياسي، إلا أنها وبعدما فقدت الحائري عام 1947 اثر وفاته، وحلول آية الله البرجردي زعيما للحوزة مكانه، أصبحت الحوزة أقل انغماسا في الشأن السياسي. وبالتالي امتنع الخميني، الذي أصبح أحد الوجوه المعروفة في الحوزة، عن القيام بأي تحرك سياسي في قم مخافة تهديدها بالانقسام، وتجنب الدخول في القضايا السياسية إلا بتكليف من البرجردي نفسه. ويقول هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس الخبراء في إيران وأحد تلاميذ الخميني في حوزة قم، في مذكراته إن السبب في عدم انشغال البرجردي بالشأن السياسي هو أن البرجردي كان يرى ان الحوزة بلغت من الضعف منزلة ينبغي فيها أن تركز على إصلاحها من الداخل أولا، وذلك بعد ضربات الشاه المتكررة لآيات الله الكبار في الحوزة أملا في إضعاف صوتهم السياسي. كما أن الحوزة كانت في ذلك الوقت تعاني من الانقسام بين آيات الله بسبب الاختلافات فيما بينهم حول الإصلاحات التي يريدها الشاه. فالأولوية إذا كانت لإعادة الحوزة لقوتها وتماسكها الداخلي، ثم الانشغال بالسياسة ثانيا. وفي ظل مرجعية البرجردي، تم تعيين الخميني مستشارا له للشؤون السياسية وتنظيم شؤون الحوزة. وبالرغم من وجود اختلافات في وجهات النظر وتحفظات للخميني على الأداء السياسي لآية الله البرجردي إلا انه لم ينتقده علنا، وان نشط عمليا في دعم توجهات سياسية لم تنل تأييد البرجردي. ويقول هاني فحص أنه برغم التباينات بين البرجردي والخميني، إلا أن علاقتهما لم تكن مضطربة، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «في حدود علمي لم تكن العلاقة مضطربة بين الخميني والبروجردي. كانت ظروف البروجردي صعبة. كانت هناك مراكز نفوذ تحت ظل مرجعيته، أحاطت به وجعلت أداءه يبدو مضطربا، خاصة بعد فشل الثورة الدستورية وانقلاب بعض قياداتها عليها (مثل الشيخ فضل الله نوري الذي تراجع عن بعض مطالبه الإصلاحية)، وبعد الفصل بين كاشاني وحركة مصدق وعودة الشاه للحكم بدعم أميركي ورضاء سوفياتي». وعندما حاول محمد رضا شاه تغيير الدستور في مطلع الخمسينات لزيادة صلاحياته، عارضت الحوزة، وزاد من غضبها تلاعب في نتائج انتخابات البرلمان. فأرسل محمد رضا شاه رئيس وزرائه إقبال مبعوثا للحوزة، فانتدب آية الله البرجردي وآية الله كاشاني، رئيس كتلة نواب طهران في البرلمان، الخميني لمقابلته، وكان موقف الحوزة واضحا وموحدا وهو رفض توسيع صلاحيات الشاه على أساس أن هذا سيكون بداية يستغلها من أجل أن يلغى القوانين ويتصرف كما يشاء. وكانت الحوزة تتحرك مدفوعة بتحركات الشارع وباقي القوى الوطنية في إيران، فاضطر الشاه للتراجع عن رغبته في تغيير الدستور. ما شجع الخميني على أن يظهر بشكل علني أكثر معارضته للشاه.
لكن بالرغم من انشغال الحوزة بمعارضة سياسات الشاه، إلا أن إطاحة الشاه لم تكن في الواقع هدفا لرجال الدين في قم آنذاك. ويقول المفكر الإيراني محسن كديور لـ«الشرق الأوسط»: إن رجال الدين في حوزة قم بالرغم من اعتراضاتهم على سياسات الشاه، إلا أن مبتغاهم كان إجباره على تغيير سياساته، موضحا: «في ذلك الوقت لم يكن قد تبلور التيار الأكثر ثورية في قم الذي رأى أنه لا أمل في إصلاح الشاه.. هذا التيار تبلور تدريجيا داخل قم، والحقيقة أنه تأثر بالشارع الإيراني الذي كانت تتحرك فيه تيارات ثورية عديدة من يمين إلى يسار.. أي أن الشارع الإيراني سارع إلى تثوير الحوزة». جاءت اللحظة الفاصلة في الانشغال السياسي للخميني بعد وفاة آية الله البرجردي عام 1961، ما أتاح للخميني التحرك بسلاسة أكبر في الحوزة، إلا أن الشاه كان يريد شيئا آخر، كان يريد إضعاف حوزة قم لصالح حوزة النجف للتخلص من ضغوطات رجال الدين في إيران. فقد جاء الشاه إلى الحوزة العلمية في قم بعد وفاة البرجردي مباشرة وقام بإلقاء خطبة في مقام السيدة المعصومة، وقال إنه كان هناك سد منعه من تحقيق نوايا والده في إيران (مشيرا إلى وقوف الحوزة ضد خطوات العلمنة التي حاولها والده). واستطرد الشاه مؤكدا انه منذ اليوم ستنفذ نوايا والده في إيران. بعد ذلك أرسل الشاه رسالة إلى آية الله الحكيم في حوزة النجف، عبر له فيها عن احترامه وتقديره. ولم يكن الحكيم يتدخل في الشأن الإيراني لكن الشاه أراد إرسال رسالة مفادها أن المرجعية بالنسبة له انتقلت إلى النجف بعد وفاة البرجردي، بهدف تهميش المرجعية في قم وآيات الله فيها مثل الخميني، والقلبيقاني والمرعشي نجفي، وشريعتمداري. كانت هذه المرحلة مهمة في «صراع الإرادات» بين الحوزة وبين الشاه، فبعد عام على وفاة البرجردي، رأى الشاه أن الوقت بات مناسبا لإجراء التعديلات الدستورية التي يريدها، فأجرى تعديلات على قوانين الانتخابات البلدية تقضي بحذف شرط الإسلام للناخب والمرشح، وحذف شرط القسم بالقرآن، والسماح للنساء بالترشح في الانتخابات. فدعا الخميني إلى اجتماع عاجل في بيت آية الله الحائري اليزدي، وعارض آيات الله البند الأول لأنه يسمح في رأيهم بإدخال الطائفة البهائية في مؤسسات الدولة. فإرسال الشاه رسالة إلى آيات الله الكبار في قم داعيا إياهم «حجة الإسلام» وحثهم على الاهتمام بشؤون الفقه وهداية العامة فقط لا الدخول في السياسة وطرح رأيهم في التعديلات الدستورية التي أجراها الشاه. . لكن الحوزة كانت في مزاج آخر بعد وفاة البرجردي، كان مزاجها أكثر ثورية. فأمر الخميني تلاميذه بتنظيم مظاهرات، وامتلأت شوارع مدن إيران لمدة 6 أشهر بالمظاهرات. فاضطر الشاه إلى إرسال رسائل إلى آيات الله، باستثناء الخميني، يعلن فيها التراجع عن التعديلات الدستورية، غير أن الخميني أصر على أن يكون خطاب التنازل عن التعديلات علنيا وليس في رسالة للعلماء فنشر القرار في الصحيفة الرسمية. ويلاحظ هاني فحص أن الشاه لم يستطع أن يلحظ مبكرا تزايد المد ضده في حوزة قم، إذ كان الشاه يعتقد ان الخطر الأساسي يأتي من الحركتين اليسارية والوطنية الليبرالية في إيران اللتين دفعتا ثمنا باهظا بسبب هذا الاعتقاد. فعندما أعلن الشاه عن إحباط محاولة لاغتياله، اعتقل عشرات المعارضين من حزب «توده» اليساري، كما أعتقل آية الله كاشاني زعيم كتلة طهران في البرلمان الذي كان قريبا من الحركة الوطنية بقيادة زعيم الجبهة الوطنية محمد مصدق. فيما كانت حركة «فدائيان إسلام» المسلحة والتي خرجت من قلب قم إلى يد أحد طلبة العلوم الدينية وهو نواب صفوي تعمل من دون تضييقات كثيرة ما جعل تأثيرها يمتد بسرعة وسط طلبة الحوزة في قم، ثم خارج قم، ما ساهم في انتشار سمعة الخميني كمعارض قوى للشاه وسط الحوزة، إذ أنه كان مؤيدا لحركة نواب صفوي. وفي عام 1963 ووسط أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة، أعلن الشاه الثورة البيضاء وتتضمن الإصلاح الزراعي ومحو الأمية وبيع نسبة معينة من أسهم الشركات الحكومية للشعب وتعديل قانون، إلا أن الخميني انتقد مسالب في الثورة البيضاء ومن بينها أنها تجعل إيران تعتمد على الاستيراد من الخارج، وقال الخميني إن الإصلاحات انتهاك للدستور لأنها تمنح الشاه كل هذه الصلاحيات، وقال لأنصاره إن الهدف الآن «لم يعد الحكومة» بل «الشاه شخصيا». فخرجت المظاهرات في كل المدن الإيرانية، وبدأت الإضرابات وتعطلت الأعمال، فأعلن الشاه إجراء استفتاء على إصلاحاته وتعديلات للقوانين وقرر زيارة قم، إلا أن الخميني اصدر فتوى بتحريم استقبال الشاه. فقاطع أهالي قم ورجال الدين زيارة الشاه، إلا أن الاستفتاء مر شعبيا. لكن الخميني دعا إلى مواصلة رجال الدين الإضراب، فقرر الشاه الرد وأعطى أوامر باقتحام «المدرسة الفيضية»، أكبر المدارس الدينية في قم في مارس (آذار) عام 1963. وفي مطلع عام 1963 قرر الشاه فتح سفارة لإسرائيل في طهران فاجتمع الخميني مع آيات الله في قم وقرروا إرسال رسالة اعتراض للشاه في ذكرى عاشوراء احتجاجا، ما أدى إلى اعتقاله في 4 يونيو (حزيران) عام 1963 من منزله في قم حيث أخذ إلى طهران، ولاحقا أطلقه الشاه ووضعه قيد الإقامة الجبرية في منطقة الداودية التي تبعد 12 كيلو مترا عن طهران، فأعلن البازار الإضراب حتى إطلاق الخميني. وبعد 9 أشهر أطلقه الشاه في أبريل (نيسان) 1964. لكن خلال سجن الخميني صعد تيار داخل الحوزة بقيادة آية الله شريعتمداري يتساءل حول جدوى الثورة ضد الشاه وفرص نجاحها وكانت هذه فرصة ملائمة للشاه لتعزيز الانشقاق داخل الحوزة. وإذا كانت «تقاليد الاعتراض» داخل الحوزة أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في دفع الثورة ضد الشاه للأمام، فإن «جذور الاختلافات» بين التيار الديني من ناحية، والتيار الليبرالي الوطني واليساري من ناحية أخرى أحد العوامل الأساسية التي أثرت على مسار الثورة والدولة الإيرانية اليوم. ويلاحظ محمد علي مهتدي الصحافي الإيراني في صحيفة «اطلاعات» اليومية الرسمية أن الحركة الوطنية الإيرانية خلال تلك الفترة في الخمسينات والستينات شهدت تعاونا وتنسيقا وتبادلا للأدوار بين التيارين الليبرالي واليساري من ناحية، والتيار الديني من ناحية أخرى، موضحا لـ«الشرق الأوسط» أن هذا التنسيق والتواصل كان أيضا كاشفا وبشكل مبكر للاختلافات بين التيارين. فمنذ البداية وبالرغم من عداء التيار الوطني الليبرالي واليساري والتيار الديني للشاه، إلا أن كليهما كان يعتقد أنه هو «التيار الأساسي المحرك» للاحتجاجات ضد الشاه، وان التيار الآخر ما هو إلا «لاعب إضافي ثانوي» يدعم اللاعب الأساسي. وكان لسان حال الحركة الوطنية الليبرالية يقول: نحن دفعنا الثمن أكثر من رجال الدين، نحن من دخل السجن وتعذب. فيما رجال الدين في قم يقولون: نحن أيضا دخلنا السجون، وإن لم يكن بنفس الدرجة، لكننا حركنا الشارع بفتاوى آيات الله في الحوزة. وهناك حادثة تاريخية توضح الجذور الأولى لسوء التفاهم هذا. ففي الخمسينات شكل رجال الدين والحركة الوطنية العلمانية ائتلافا في البرلمان. وقدم زعيم الجبهة الوطنية محمد مصدق بدعم من آية الله كاشاني مشروع قانون لتأميم النفط الإيراني، فرفضت الحكومة على أساس أن إيران عاجزة عن إدارة شؤونها النفطية. فرد مصدق وكاشاني باللجوء إلى الشارع وأعلنا الإضراب العام، ثم أفتى كاشاني بالإضراب ودعا بالذات القلب الاقتصادي لطهران وهو بالبازار بالإضراب.. وهو ما كان. تواصلت المظاهرات والإضرابات وأعمال العنف، فاضطر الشاه للسماح بوصول مصدق لرئاسة الوزراء بعد فوزه في الانتخابات. لكن الاختلافات الفكرية سرعان ما بدأت تظهر بين مصدق أو الحركة الوطنية من ناحية، وبين كاشاني أو رجال الدين من ناحية أخرى. فبعد وصول مصدق لرئاسة الوزراء بدأ رجال الدين يوجهون انتقادات إلى مصدق على أساس أنه في قرارة نفسه ليس مؤمنا بدور رجال الدين أو بكاشاني. (كان مصدق يريد من كاشاني ورجال الدين أن يتراجعوا ويتركوا التكنوقراط يديرون الحكومة لأنه كان يؤمن بانفصال الدين عن السياسة، غير أن هذا لم يرض رجال الدين في قم الذين لم يشعروا بالراحة لترك السلطة في يد الحركة الوطنية التي لم تكن لتنجح لولا وجودهم معها، بحسب ما يقول هاشمي رفسنجاني في مذكراته). ثم انتقد مصدق بسبب إهانات تعرض لها كاشاني، فقد صوره البعض في الحركة الوطنية بأنه لا يفهم في السياسة أو أمور الدولة، كما أن أحدهم ألبس كلبا قطعة قماش مكتوبا عليها كاشاني، ما أثار استياء بالغا لدى رجال الدين، أما الأمر الثاني الذي أزعج رجال الدين فهو حبس نواب صفوي زعيم «فدئيان إسلام» لمدة 20 شهرا عندما كان مصدق رئيسا للوزراء. وفيما كانت أميركا تحضر لانقلاب ضد مصدق، وبحسب روايات عديدة فقد اتصل كاشاني بمصدق لإخباره بما تخطط له أميركا، وقال له إن رجال الدين يمكن أن يساعدوه أمام الشاه ومحاولات واشنطن الانقلاب عليه. لكن مصدق لم يأخذ التحذيرات على محمل الجد على اعتبار انه مدعوم من الشعب لكن أميركا نفذت الانقلاب بنجاح أغسطس (آب) 1953 واعتقل مصدق ثم أطيح به وعينت حكومة جديدة. كانت إطاحة مصدق وإضعاف كاشاني، ثم إعدام نواب صفوي.. بداية جديدة لحركة رجال الدين في إيران. فقد رأى الخميني أن السبب الأساسي في نجاح الانقلاب ضد مصدق وفشل حركة مصدق -كاشاني وإعدام صفوي هو غياب «الدفاع الشعبي الذي يحمي الثورة». فبدأ الخميني في نقل الثورة من الحوزة والجامعة إلى الشارع والمصانع والبازار وحتى رجال الجيش. الخميني بين الموسوي والهندي
* وفقا للدوائر الرسمية الإيرانية فإن جذور آية الله الخميني تعود إلى الإمام موسى بن جعفر الحفيد الخامس للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والإمام السابع في أئمة الشيعة الجعفرية الاثني عشرية. وقد استقرت عائلة الإمام موسي بن جعفر في العراق وعرفت باسم عائلة «الموسوي»، ثم هاجر جزء من العائلة إلى نيشابور، وهى إحدى المدن الإيرانية اليوم. بقوا في نيشابور فترة ومنها توجهوا إلى كشمير بالهند، إذ تولت عائلة الموسوى نشر الإسلام في كشمير، فتحول لقب العائلة إلى «الهندي». استمر نسل العائلة إلى مير حامد حسين الموسوى الهندي الذي يعتبر الجد الثالث لروح الله الخميني، أي قبل ولادة الخميني بـ 250 عاماً. سافر جد الخميني أحمد الهندي إلى النجف في العراق لإكمال علومه الدينية، ومنها عاد إلى «خمين» وهى قرية صغيرة وسط إيران حيث عمل قاضياً لخمين بناء على طلب من آية الله ميزرا شيرازي زعيم حوزة قم آنذاك، وهناك أنجب أحمد الهندي، مصطفي والد روح الله الخميني عام 1864، حيث أصبح «الخميني» لقب العائلة. ويوم ولادة روح الله االخميني في 24 سبتمبر (أيلول) عام 1902، قتل والده مصطفى على يد جماعات إقطاعية، فظلت شقيقة مصطفى وعمة روح الله الخميني صاحبة خانم في طهران 6 أشهر تلح على الملك لتعقب القاتل وتسليمه إلى أن تم ذلك وأُخذ وأُعدم في خمين.
الحلقة (3): الخميني من شارع أتاتورك.. إلى حضرة النجف
ألقى الخميني في حوزة النجف 19 محاضرة كانت الأساس لكتاب «حاكمية الإسلام» الذي يعد شيعياً بمثابة كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب.....
نُفِيَ آية الله الخميني 14 عاماً خارج إيران منذ عام 1964 إلى عام 1979.. وتوزع منفاه على 3 محطات، تركيا (11 شهراً) والعراق (13 عاماً) وفرنسا (4 أشهر)، كان لكل من هذه المحطات تأثير مختلف على مسار الثورة الإيرانية والخميني. ففي المنفى التركي ذهب الخميني، كما يقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط»: «كواحد من كبار العلماء والمناضلين غير الانقلابيين، وعكف على تحرير الرسالة العملية (تحرير الوسيلة) بذهنية المرجع التقليدي من دون أن يحمل مشروعاً ثورياً»، إلا أن المنفي العراقي كان تجربة مخالفة، ففي حوزة النجف أعطى الخميني 19 محاضرة في الفترة من 21 يناير (كانون الثاني) إلى 8 فبراير (شباط) عام 1970 حولها لاحقاً إلى كتاب «حاكمية الإسلام: ولاية الفقيه»، الذي كان الأساس للدستور الإيراني بعد الثورة، ويعد شيعياً بمثابة كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب. وقد خرجت المحاضرات في كتاب من 150 صفحة بعنوان «الحكومة الإسلامية: سلطة القاضي الشرعي وخطاب من الإمام موسوي كاشف» وذلك لخداع الاستخبارات الإيرانية. ثم سرب الكتاب إلى الحوزة العلمية في قم، وصُور بأعداد كبيرة لتوزيعه على تلاميذ الخميني في حوزة قم، مع تعمد عدم نشر الكتاب وسط الأوساط العلمانية والليبرالية واليسارية الإيرانية التي كانت معارضتها مؤكدة لمبدأ ولاية الفقيه. ويقول أبو الحسن بني صدر، أول رئيس جمهورية في إيران بعد نجاح الثورة، إن الخميني استفاد من عدم انتشار أفكاره حول حاكمية الولي الفقيه على نطاق واسع قبل نجاح الثورة، فالتيارات الليبرالية واليسارية وحتى رجال دين من داخل الحوزة، مثل آية الله منتظري، لم تكن راغبة في أن يحل محل الشاه، حكم من رجال الدين. لكن على مستوى آخر، كانت الأفكار الثورية واللغة الحماسية التي استخدمها الخميني من الأسباب الأساسية لتحريك الشارع الإيراني. وعندما نشبت الثورة كانت مفاجئة للجميع.. للشاه وحكومته وضباطه ولأميركا ومسؤوليها. «لم تكن لدينا معلومات كافية حول الخميني وفريقه.. نعم فوجئنا بالثورة»، يقول جاري سيك مساعد زبيجنيو برجينسكي رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي خلال إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر لـ«الشرق الأوسط»، موضحاً: «لكن حتى لو كانت معلوماتنا أفضل.. لم نكن لنستطيع وقفها». لم تتوقف انتقادات الخميني للشاه بعد إعلان الشاه عن «الثورة البيضاء» عام 1963، وقال الخميني إن الإصلاحات انتهاك للدستور لأنها تمنح الشاه كل هذه الصلاحيات، وقال لأنصاره إن الهدف الآن «لم يعد الحكومة» بل «الشاه شخصياً». وفي ظهيرة أحد أيام عاشوراء في 3 يونيو (حزيران) 1963 ومن قلب المدرسة الفيضية شبّه الخميني الشاه بـ «يزيد بن معاوية»، واصفاً الشاه بـ«البائس»، محذراً من أنه إذا لم يغير سياساته فإنه سيأتي اليوم الذي يرحّل فيه الشعب الشاه إلى خارج إيران. بعد ذلك بيومين وفي 15 يونيو (حزيران) ألقي القبض على الخميني، وظل قيد الإقامة الجبرية لمدة 8 أشهر، ثم أُطلق عام 1964. لكن وفي منتصف 1964 وقّع الشاه اتفاقية الحصانة القضائية التي تقضي بعدم محاكمة الأميركيين في إيران تحت أي دعوى، فاستغل الخميني ذكرى ولادة فاطمة الزهراء ليعلن معارضته للاتفاقية. بعد ذلك هاجمت القوات الخاصة الإيرانية منزل الخميني وأخذته، ليس إلى سجن آخر، بل إلى مطار طهران حيث أُبلغ في المطار نفيه إلى تركيا، بقرار موقّع في 3 نوفمبر عام 1964 من رئيس الوزراء الإيراني آنذاك حسن علي منصور، نصه: «وفقاً للمعلومات المؤكدة والشواهد والأدلة الكافية ثبت لدينا أن تصرفات السيد الخميني وإثارته للاضطرابات كانت ضد مصالح الشعب وأمن واستقلال ووحدة الوطن. لذلك تقرر إبعاده من إيران في تاريخ 3 نوفمبر 1964». (اغتال تنظيم «فدائيان إسلام»، الذي يدين بالولاء للخميني ونشط في قم، حسن علي منصور رداً على توقيعه قرار الإبعاد بعد أسبوعين). بات الخميني الليلة الأولى من منفاه التركي في فندق «بلوار بالاس». وفي اليوم التالي غادر وانتقل إلى شارع «أتاتورك» في أنقرة وظل به أسبوعاً واحداً، وكان في تركيا العلمانية مجبراً على خلع عمامته وردائه الديني، بموجب القوانين التي وضعها كمال أتاتورك والتي تمنع لبس العباءة أو العمامة. وفي هذه الفترة أُخذت للخميني صور بدون عمامة أو عباءة، بل بالطو طويل وكوفية حول الرقبة وبنطلون ورأس عارٍ. بعد فترة قصيرة انتقل الخميني من أنقرة إلى مدينة بورصة التركية، وفي يناير 1965 قررت السلطات الإيرانية نفي مصطفى الخميني، الابن الأكبر للخميني معه إلى تركيا. بدأ الخميني يتعلم اللغة التركية، ثم شرع في كتابه «تحرير الوسيلة» وفيه فقه سياسي وليس فقط معاملات، إلا أنه لم يتضمن رؤية سياسية ثورية. ويقول هاني فحص، الكاتب والمفكر اللبناني الذي عمل كحلقة وصل بين الثورة الإيرانية والثورة الفلسطينية، لـ«الشرق الأوسط»: «في تقديري وفي معلوماتي أن الخميني عندما نُفي إلى تركيا ذهب كواحد من كبار العلماء والمناضلين غير الانقلابيين.. أيْ معارض شديد ليس إلا.. وترافق ذلك مع فراغ نسبي في المرجعية الفقهية السياسية بعد وفاة البروجردي. وقد زاد النفي من تعلق الجمهور المتدين بالخميني وأخذ يتعاطى معه كمرجع تقليدي، متواصلا من خلال زائريه، حاملين معهم الاستفتاءات والحقوق الشرعية. وقد فاتحه كثير من المقربين منه بضرورة التصدي للمرجعية التي كان زاهداً فيها (ولكنها أصبحت أمراً واقعاً). وهنا عكف على تحرير الرسالة العملية (تحرير الوسيلة) بذهنية المرجع التقليدي من دون أن يحمل مشروعاً ثورياً وإن كان قد حمّلها رؤية سياسية معارضة تاركاً للجمهور وقواه الطليعية (خاصة الطبقة المتوسطة الناهضة) أن يتدبروا أمرهم في حركة سياسية في الوقت المناسب. ولكن ذلك لم يمنع المرجعية الفقهية الخمينية من أن تتحول جزئياً في سلوك القاعدة الشعبية وسلوك الإمام وطريق من الطلبة الدينيين والشخصيات المدنية ورجال البازار الذين يتوافدون على السوق التركية في حركة تبادلية.. لم يمنع من الدخول التدريجي في نشاطات وحركة اتصالات وفعاليات سياسية صريحة.. وشرع الفقهي يصبح سياسياً، مخالفاً بذلك الشروط التي اتفق عليها نظام الشاه مع السلطة التركية، فكان الحل الذي اتفق عليه هو إعادة النفي إلى العراق على أساس فواتير سياسية متبادلة بين النظام العراقي ونظام الشاه، تسمح بأن يقيم الخميني في النجف أستاذاً للشباب من رجال الدين الذين هم برفقته والذين قد ينضم إليهم عدد من الطلبة الإيرانيين في النجف، أو الهاربين من إيران ليندمجوا جميعاً في الحوزة في سياقها العلمي التقليدي والذي يخضع لرقابة عراقية أمنية صارمة تمنع عليهم أي حراك سياسي وفي أي اتجاه». أزعجت تحركات الخميني وذهابه للمساجد وخطبه وكتاباته وعلاقته ببعض الأتراك السلطات التركية، فطلبت أنقرة من الخميني أن يغادر بأقصى سرعة دون أن تبلغه إلى أين سيتجه. استقل الخميني الطائرة في 5 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1965، وبعد ساعات قليلة وجد نفسه في بغداد. كان العراق ساعتها تحت حكم عبد السلام عارف وفي مفترق طرق، فقد أسقط النظام الملكي تحت قيادة الملك فيصل عام 1958 وأعدم رئيس الوزراء نوري السعيد، إثر انقلاب عبد الكريم قاسم الذي ألغى الملكية، ثم انسحب العراق من حلف بغداد. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فقد كانت هناك تشابهات في تاريخ الحركة الإسلامية الشيعية بين البلدين، إذ يعود تاريخها إلى الفترة نفسها بين 1958 و1963، على يد محمد باقر الصدر في العراق، والخميني في إيران. في بغداد استقر الخميني في حي الكاظمية ليومين ثم توجه إلى كربلاء لأسبوع في ضيافة آية الله السيد محمد الشيرازي، ثم إلى النجف حيث بقي فيها 13 عاماً. وهناك لحقت به زوجته وابنه أحمد، فيما كان ابنه الأكبر مصطفى معه منذ المنفى التركي. لم تقلق السلطات في إيران كثيراً لنفي الخميني إلى العراق، فقد كانت الأصوات التي ترى أن حوزة النجف ستضعف زعامة الخميني ومكانته في إيران هي الأكثر غلبة، على أساس أن حوزة النجف بعيدة عن إيران، وحساسة جداً حيال التدخلات في السياسة. كما أن الخميني لم تكن له معرفة وثيقة بأمور حوزة النجف. أما آيات الله الكبار في حوزة النجف من أمثال آية الله محسن الحكيم، وآية الله أبو القاسم الخوئي، وآية الله باقر الصدر فقد كانوا من الأهمية والمكانة بما يمكنهم من تجاوز مكانة الخميني. كل هذه مبررات جعلت السلطات الإيرانية تأمل في أن تكون هذه بداية «نهاية تأثير الخميني في إيران». لكن في الواقع وفرت «الحلقة العراقية» والـ13 عاماً التي قضاها الخميني في منفاه العراقي أرضية خصبة لعمله المستقبلي، وعززت علاقاته خارج إيران من العراق وحتى لبنان مروراً بسورية. ففي حوزة النجف افتتح الخميني حوزته العلمية في جامع الشيخ الأنصاري وبدأ دروسه الدينية في الفقه، وبعد 4 سنوات بدأ بإلقاء دروسه عن الحكومة الإسلامية. وشكلت هذه المحاضرات «الأساس النظري» الذي بُني على أساسه دستور إيران بعد الثورة. وفي هذه المحاضرات يقول الخميني: «الدين الإسلامي ليس ديناً محدوداً يقتصر على العلاقة بين العبد وربه. فالإسلام هو دين سياسي». وساعد الخميني أن حوزة النجف نفسها كانت بدأت تدخل في مزاج سياسي. ففي السينيات بدأ آية الله محمد باقر الصدر الانشغال بالسياسة، وظهر «حزب الدعوة». لكن حركة الصدر لم تحظَ بإجماع واسع، خصوصاً أن آيات الله كبار لم يرحبوا كثيرا بانخراط حوزة النجف في الانشغال السياسي ومن بين هؤلاء آية الله محسن الحكيم الذي لم يفضل دخول غمار العمل السياسي والثوري بالرغم من إلحاح الخميني عليه. وفي النهاية قرر الخميني عدم التدخل كي لا تتزايد الشقوق بين آيات الله في النجف. فلم يقم الخميني بدفع المبالغ الشهرية للطلاب ولا بتوزيع رسالته العلمية، ونأى بنفسه عن أن يكون من مراجع التقليد في النجف، وبات شغله الأساسي ما يدور في إيران. ويقول هاني فحص حول تأثير هذه الخطوة على نشاط الخميني في إيران لـ«الشرق الأوسط»: «في النجف قام الخميني بحركته الذكية.. تجاوز الاحتفاء الجماهيري الواسع واندفاع الطلبة في النجف لاستقباله والإحاطة به، وبنى حوله سوراً أو سياجاً تتخلله فتحات محدودة قدم من خلالها بعض المساعدات للطلبة العرب الجادين والفقراء في النجف دون أن يحاول استقطابهم. وخرج من منافسات المرجعيات الدينية في النجف، فأصبح في منأى عن اعتراضاتها ومشاغلها المعتادة، ونظم فريق عمله وشق قنواته المرتبة نحو النجف وطهران والمنافي التي اختارها عدد من أنصاره على اختلاف اتصالاتهم وثقافاتهم.
وفي النجف تيسر، أو كان لابد، للبدايات السياسية المتدرجة من طهران إلى الأناضول، أن تتواصل مع معطيات وظروف عربية وعراقية ودولية تشجعها على التوغل في مسارها السياسي.. فقبل وصوله إلى النجف بسنوات كانت النجف أو حيز منها قد تلقفت أدبيات الإخوان المسلمين وأسس حزب الدعوة -الإخوان الشيعة- واحتدم الجدل داخل الحوزة بين المرجعيات التقليدية والمرجعية الحزبية المستجدة والتي انضم إليها عدد كبير من شباب العلماء المعروفين بالفضيلة العلمية والطموح إلى التغيير (كمحمد باقر الصدر مثلا). عاش الخميني في هذه الفضاءات وتأثر بها وظهر مختلفاً عن مراجع الذين لا يحبذون الانقلاب ويراهنون على مراكمة التغيرات ببطء وحذر مع نزوع دائم إلى التسويات المقبولة.. وحول دروسه ومحاضراته في فريق عمله، الذي اتسع نسبياً، إلى بحث فقهي سياسي أنتج من خلاله كتابه المعروف (الحكومة الإسلامية) والذي كان –شيعياً- بمثابة كتاب سيد قطب (معالم في الطريق). وإن كان سيد قطب وكتابه أقرب إلى مزاج الإسلام السياسي الحركي الشيعي المستجد في النجف والذي كان عموماً أقرب إلى القبول والرضا بالشاه ونظامه ومسلكه المتعارض مع مسلك الحركة القومية العربية خاصة في جانبها العارفي والناصري ثم البعثي لاحقاً». سنوات وجود الخميني في النجف لم تشهد انقطاعاً بينه وبين إيران، فقد كان الزوار يتوافدون بشكل شبه يومي بين النجف وقم، وواصل طلبة الخميني التنظيم في القرى والمدن وتنظيم الجماعات السياسية ومن ضمنهم آية الله مطهري وآية الله بهشتي وآية الله خامنئي وهاشمي رافسنجاني. كانت بيانات الخميني تطبع بشكل سري وترسل لإيران عن طريق سورية أو الكويت، يحملها غالباً تلاميذ للخميني خضعوا لدورة تدريبية في معسكرات فتح في لبنان ويحملون هوية منظمة «فتح». كما كان الخميني يرسل مع أقاربه خلال زيارتهم للنجف أشرطة كاسيت تفرّغ وتطبع وتوزع في قم، كما ساعد على انتشار أفكار الخميني داخل العراق وإيران سماح عبد السلام عارف بإقامة إذاعة خاصة للمعارضة الإيرانية في النجف بقيادة الخميني، مما منح الخميني هامشاً ملائماً للحركة. وفي عام 1968 حدث الانقلاب البعثي، فتدهورت علاقة الخميني بالنظام العراقي بسبب الضربات التي وجهها أحمد حسن البكر للمؤسسة الدينية في العراق والحركة الإسلامية. غير أن الأمور تغيرت لاحقاً، فبعد تصاعد الخلافات بين العراق وشاه إيران عام 1971، قام أحمد حسن البكر بطرد عدد كبير من الإيرانيين في حوزة النجف أو اعتقالهم رداً على تسليح الشاه للأكراد العراقيين المنتشرين على المنطقة الحدودية بين البلدين. واستمرت التوترات بين عراق البعث وشاه إيران حتى 1974، ووسط هذا حاول النظام البعثي التقرب إلى المعارضة الإيرانية في النجف وأرسل وفداً لمقابلة الخميني، لكن الخميني أعلن نيته مغادرة العراق، غير أن نظام البعث أبقاه قيد الإقامة الجبرية لاستغلاله كورقة في اللحظة المناسبة. أصبح بيت الخميني محاصراً في النجف تحت الحراسة الأمنية، فاعتصم احتجاجاً ولم يعد يخرج من البيت، إلى أن توفي ابنه الأكبر مصطفى في 23 يوليو 1978 بطريقة غامضة، قيل إنها تسمم، فقرر الخميني مغادرة العراق بأي شكل، توجه أولا إلى الكويت ومنها إلى سورية. على الحدود مع الكويت تركه تلاميذه وأخذ هو سيارة لدخول الكويت، لكن السلطات الكويتية رفضت السماح له بالدخول، فطلب أن يستقل الطائرة لبلد آخر فرفضوا. عاد الخميني إلى بغداد وهو يعرف أنه لن يسمح له بدخول العراق التي لم تكن تريد إفساد علاقتها بالشاه بعد اتفاق بين البلدين في الجزائر 1975 يقضي بتضييق هامش حركة الحركات المعارضة في كل بلد. من بغداد حجز الخميني تذكرة إلى فرنسا، التي استقبلته مشترطة عدم القيام بأي نشاط سياسي معادٍ للشاه، فردّ «لن أقوم بأي نشاط داخل فرنسا لكنني سأواصل العمل بالبيانات داخل إيران». بقي الخميني في فرنسا من أكتوبر 1978 حتى فبراير 1979 ومعه ابنه أحمد، فيما بقيت زوجته في العراق. وكان يجري 5 أحاديث صحافية في اليوم، وخلال نحو 4 أشهر كان قد أجرى 450 حديثاً صحافياً. في هذه الفترة، كما يقول محمد علي مهتدي الصحافي في صحيفة «إطلاعات» الإيرانية لـ«الشرق الأوسط»: كانت إيران تغلي من الداخل، وتم حل الحكومة المدنية وتم تشكيل حكومة عسكرية محلها، وانتشرت الاعتقالات والدبابات في الشارع. ثم بدأ الشاه يهين الخميني عبر مقالات في صحف رسمية مثل «اطلاعات»، في تناقض مع معادلة تاريخية وهى احترام الشاه الصفوي ولاحقاً الشاه القاغاري ثم البهلوي للمرجع الأكبر سواء كان هذا المرجع نجفياً أو قمياً. ويوضح مهتدي أن الشاه دفع ثمناً غالياً لاستخفافه بهذه المعادلة، إذ خرجت الناس في مظاهرات كبيرة جداً في قم وطهران ويزد وتبريز وعبدان، فيما بات يعرف بـ «الحركة الأربعينية». وقُتل المئات. في ظل هذه الأجواء الملتهبة في إيران، كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر مشغولا بالسلام بين مصر وإسرائيل، وقلق قلقاً بسيطاً على تطورات إيران بعد تقارير مطمئنة من الاستخبارات الأميركية. لكن المشكلة أن الاستخبارات الأميركية في إيران كان لها وجود في كل مكان، وأعين وسط الحركة الوطنية والحركة الليبرالية والحركة اليسارية، إلا في قم ووسط رجال الدين.
ويقول جاري سيك الذي عمل في مجلس الأمن القومي الأميركي تحت إدارة 3 رؤساء أميركيين هم جيرالد فورد وجيمي كارتر ورونالد ريغان، وكان متابعاً لملف الثورة الإيرانية ثم أزمة الرهائن يوماً بيوم مع بيرجينسكي خلال إدارة كارتر لـ«الشرق الأوسط» حول مستوى ودرجة معرفة الاستخبارات الأميركية بما كان يدور في إيران قبل الثورة: «مستوى معرفتنا الاستخباراتية بما كان يدور داخل حركة الخميني كان محدوداً جداً.. لكن كانت لدينا اتصالات مع عدد مختلف من الناس المحيطين بمهدي بازوركان(زعيم الجبهة الوطنية الإيرانية) في طهران من بينهم إبراهيم يزدي الذي كان مع الخميني في باريس. لكن مع ذلك، وبالرغم من ذلك، لا يمكننا القول إنه بسبب نقص معرفتنا الاستخباراتية بما كان يدور داخل حركة الخميني، حدثت الثورة نتيجة ذلك. أو القول إنه لو كانت لدينا معرفة أكبر بما كان يدور داخل حركة الخميني لكان بإمكاننا منع الثورة. لأن الشاه فعلا لم يكن قادراً على التعامل مع التهديد الذي يواجه عرشه. وإذا كان هناك أي شخص كانت لديه معلومات مضللة حول ما الذي يستطع الملالي في إيران فعله، وكيف يمكن أن يفعلوه، فذلك الشخص هو الشاه نفسه. فهو فعلا فشل في فهم تطورات الموقف حتى النهاية. كان يعتقد أن الثورة في شوارع إيران سببها الروس، أو الاستخبارات المركزية الأميركية، وكان هذا تفسيره الوحيد لما كان يحدث في شوارع إيران لأنه لم يستطع أن يصدق أن الملالي ورجال الدين في إيران قادرون على أن يقودوا ثورة ضده بهذا الشكل. وكنتيجة لذلك لم يكن لديه أي فكرة عما ينبغي أن يفعل إزاء ثورة الإيرانيين في الشارع. نحن في إدارة كارتر لم نكن أيضاً لدينا معلومات كافية. هذا صحيح تماماً. لكن حتى إذا كانت لدينا كل المعلومات، فإنه ليس من المؤكد أننا كنا في وضع يمكّننا من وقف الثورة. كان هناك ملايين الإيرانيين يتظاهرون في الشوارع كل يوم. هذا مد من الصعب وقفه عندما يبدأ، والشاه جعل هذا المد يمتد إلى نقطة أنه بات من الصعب جداً جداً وقفه». ويتابع سيك: «نعم كانت لدينا معلومات محدودة حول الخميني وجماعته، نعم فوجئنا بدرجة وقدرة رجال الدين في إيران على تعبئة دعم الإيرانيين ضد الشاه. نعم حقيقة فوجئنا أن الشاه أثبت أنه غير قادر على تطوير استراتيجية متماسكة للتعامل مع الوضع. كرر دائماً أنه سيخرج باستراتيجية لمواجهة الوضع لكنه لم يفعل. حقيقة لقد فوجئنا بعدد من الأشياء. لكن في النهاية، القول إننا لو امتلكنا معلومات استخباراتية كافية لكان بإمكاننا وقف الثورة، هذا غير صحيح. فهؤلاء لم يكونوا مجموعة قليلة من الناس، توافر المعلومات عنهم تمكننا من وقف حركاتهم. في الحقيقة هذه كانت ثورة واسعة جداً. لم تكن الخميني وجماعته فقط في باريس، بل ضمت عدداً من مساعديه ومسؤولين عسكريين وتلاميذ عملوا معه لسنوات ويتحركون بشكل مستقل في إيران، وداخل المساجد، وهى منطقة لم ينجح الشاه في السيطرة عليها، وفشلت شرطته السرية في معرفة ماذا يدور داخلها. كان وضعاً معقداً ومتداخلا، وحتى إذا كانت لدينا معلومات، هل كنا قادرين على وقفها.. ردي: لا على الإطلاق».
فوجئت أميركا بمدى نفوذ التيارات السياسية المعارضة في الشارع الإيراني، وخطورة وضع الشاه لدرجة أن الوقت الذي بقي متاحاً للتفكير في بدائل كان قليلا جداً.. كان الوقت بدأ ينفد. ويؤكد سيك أن إدارة كارتر لم تناقش فكرة «تدخل عسكري أميركي من جانب واحد» لإنقاذ نظام الشاه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «الشاه كان لديه جيش من 400 ألف جندي، يدينون له بالولاء. لم يدعُهم الشاه أبداً كي يتصدوا لما كان يحدث. وعندما جاءت اللحظة، وبات واضحاً أن الثورة في طريقها للانتصار ومنشآت تقع في يد الثوريين، انهار الجيش الإيراني. لم تكن قياداته قادرة على الاتفاق على استراتيجية حتى لمواجهة ما كان يحدث، على النقيض تخلوا عن سلاحهم وغادروا ثكناتهم. إذا كان لديك جيش من 400 ألف جندي يدينون بالولاء للشاه وفشلوا تماماً في الرد.. فما الذي يعنيه هذا بالنسبة لأي تدخل عسكري أميركي؟ فكرة أن أميركا كان يمكنها أن تأتي وتتدخل عسكرياً لإنقاذ الشاه في الوقت الذي يستطيع، أو لم يرد، جيش الشاه التدخل، يجعلنا أمام قرار من الصعب جداً اتخاذه. حقيقة فكرة تدخل عسكري أميركي أحادي الجانب للسيطرة على الأوضاع في إيران لم يتم بحثها خلال الأزمة». ويوضح سيك أن إدارة كارتر عندما باتت شبه متأكدة من أن الثورة ستنجح، قررت عقد لقاءات مع الخميني في باريس في محاولة لمعرفة توجهاته، موضحاً: «كما أتذكر أجرينا محادثتين في باريس مع مقربين من الخميني لمعرفة ما إذا كان هناك أي شيء يمكن الحديث حوله مع الخميني. وما حدث هو أن هذه المحادثات الأولية لم تؤدّ إلى أي نتيجة وبالتالي لم تتواصل. هذه كانت محادثات محدودة جداً. عموماً هناك من ينتقدون الولايات المتحدة لأنه لم يكن لديها اتصالات كافية مع الخميني وفريقه أو المعارضة، كما أن هناك من انتقدوا الولايات المتحدة لأنها أجرت اتصالات في رأيهم أكثر من اللازم مع المعارضة الإيرانية في ذلك الوقت». ويلاحظ محمد علي مهتدي أنه عندما بدأت أميركا تتحرك في محاولة للحوار مع التيارات الثورية ومنعاً لانهيار النظام بأكمله تحركت متأخرة جداً، وبعدما كانت علاقات التيارات الثورية مع أميركا قد تدهورت تماماً، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن هناك شيء بيد أميركا. لم يكن لأميركا أن تفعل أي شيء سوى ما فعلته وهو إخلاء القواعد العسكرية وإخلاء المستشارين العسكريين وترحيلهم من إيران لأنهم تأكدوا من انتصار الثورة، لم يكن هناك من طريق لمواجهة الثورة، كما لم يكن من الممكن قتل ملايين الناس في الشوارع، والجيش الإيراني كان على وشك الانهيار.. والأميركيون عرفوا أن الجيش منهار ولا يمكن الاعتماد عليه لأن جسد الجيش، بغض النظر عن الجنرالات الكبار الذين كانوا أوفياء للشاه، كان مع الشعب، وفي النهاية حدث تمرد وهرب الجنود من ثكناتهم ومعسكراتهم، وسلموا الأسلحة للشعب، فعرف الأميركيون أنه من المستحيل التدخل لإجهاض الثورة. وجاءت تلك الأحداث بعد أشهر معدودة فقط من قول الرئيس الأميركي جيمي كارتر إن إيران (جزيرة الاستقرار وسط منطقة مضطربة) وذلك خلال زيارة لإيران للاحتفال برأس السنة الميلادية. وهذا يدل كم أن الأميركيين كانوا بعيدين عن الواقع في إيران. لم يكن بإمكان أي طرف خارجي أو قوة عظمى أن تفعل شيئاً للنظام المنهار، الأميركيون حاولوا بمجرد أن عرفوا أن نظام الشاه سينهار؛ فتحوا قنوات حوار مع الإمام الخميني قبل نحو شهرين من نجاح الثورة وقبل مجيء الخميني إلى طهران، وذلك في نوفيل شاتو في فرنسا، من خلال بعض الصحافيين والمستشارين وبعض الشخصيات المعروفة، وفشلوا لأن الأمام الخميني كان لا يثق بالأميركيين». عاد الخميني إلى طهران يوم 1 فبراير 1979.. ثم خاض لأيام حرب شوارع، وتحولت طهران إلى أرض معركة بين الخميني وأنصاره ورئيس الوزراء الذي عينه الشاه شهبور بختيار وأنصاره واندلعت مواجهات عنيفة وأقيمت متاريس لتقسيم طهران. وظل القتال طوال الليل حتى احتل مؤيدو الخميني المباني الأساسية والثكنات ومبنى الإذاعة والتلفزيون وأصدروا البيان رقم واحد: لقد انتصرت الثورة.
الحلقة (4) : خميني باريس.. وخميني طهران
من بازركان إلى يزدي إلى بني صدر .. هكذا تفاقمت الصراعات داخل تيارات الثورة الإيرانية
يقول أبو الحسن بني صدر، أول رئيس جمهورية في إيران بعد الثورة، إن السبب في الخلافات التي حدثت بين التيار الوطني الليبرالي واليساري وبين التيار الديني يعود إلى أن «خميني باريس» كان غير «خميني طهران»، موضحا لـ«الشرق الأوسط»: «في باريس كان الخميني محاطا بالمثقفين والمفكرين.. فيما في قم وطهران كان محاطا برجال دين». ومن قم إلى طهران بدأت قصة الخلاف بين تيارات الثورة الإيرانية، وبدأت الأعصاب تتوتر، وتتزايد عمليات الاغتيال من الطرفين، وشلت الدولة، وبدأت القوى التي شاركت في الثورة تترصد بعضها لبعض وتتصيد الأخطاء وتتبادل الاتهامات.
ويروي هاني فحص الذي كان قريبا من الثورة الإيرانية وقيادتها لـ«الشرق الأوسط»: «أذكر أنه في إحدى الليالي عقدت جلسة تشاورية في منزل المرحوم الدكتور علي شريعتي (أحد أهم منظري الثورة الإيرانية)، حضرها المرحوم السيد أحمد الخميني، ابن الخميني، الذي خضع لاستجواب طويل وتفصيلي ومعقد، يدور حول مخالفات الدولة أو السلطة لتقييم الثورة وأفكارها. وناقش السيد أحمد، وعندما حوصر قال أحمد الخميني: اعذرونا، فالإمام معزول ومحاصر ومكتوف اليد. فقالت زوجة المرحوم شريعتي لأحمد الخميني: أنت تذكرنا بالشاه، فقد كان كثيرون وقتها يقولون إن الشاه جيد ويريد خيرا لكنه محاصر. فهل أصبح الإمام مثل الشاه؟ هذه كارثة».
عاد الخميني إلى طهران وقال بعد أيام من نجاح الثورة الإيرانية في 11 فبراير (شباط) 1979: «إننا نعيش في الجمهورية الإسلامية. في الجمهورية الإسلامية كانت حكومة الإسلام تدار من قبل الرسول الأكرم والأئمة. علينا أن تكون حكومتنا كحكومتهم». إلا أن هذا التوجه سبب قلقا وسط التيارات الليبرالية والقومية واليسارية الإيرانية، فرجال الدين لم يكونوا سوى جزء من التيارات التي قادت الثورة في إيران.
يقول محسن كديور المفكر الإيراني البارز لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن الثورة الإيرانية ثورة إسلامية دينية، بل ثورة وطنية، شارك فيها فئات من الشعب يعملون في إطار التيار الليبرالي والجبهة الوطنية والتيار اليساري. لم يتوقع الذين شاركوا فيها حتى من رجال الدين في الأيام الأولى بعد قيامها أن تصبح لهم اليد العليا في السلطة». بعد فترة من عودته إلى طهران غادر الخميني إلى قم، حيث أدار شؤون الحكم من هناك. وكان الوزراء والمسؤولون يتوجهون إليه في منزله في قم، ويعرضون عليه القرارات والتطورات السياسية وهم جالسون على حصيرة على الأرض بجواره. (ظلت قم هي مركز اتخاذ القرار إلى أن اضطر الخميني إلى العودة إلى طهران بعدما قال له الأطباء إن حالة قلبه لا تحتمل أن يعيش في قم، وإن عليه أن يتوجه إلى طهران كي يكون قريبا من فريقه المعالج).
من قم أصدر الخميني تعليماته بوضع أسس جديدة للسلطة التشريعية والتنفيذية، فأمر بتشكيل مجلس الشورى الثوري برئاسة آية الله طالقاني وعضوية مرتضى مطهري ومحمد بهشتي وهاشمي رفسنجاني ومهدي العراقي ومحمد مفتح، وكلهم من رجال الدين وتلاميذ الخميني المقربين منه، إضافة إلى أبو الحسن بني صدر وقطب زاده، وكلاهما كان قريبا من الخميني، فأبو الحسن بني صدر كان معه عندما كان منفيا في فرنسا. وفي 15 فبراير (شباط) 1979 أصدر الخميني قرارا بتشكيل «حكومة مؤقتة»، مهمتها تنفيذ قرارات «مجلس شورى الثورة»، وبدأ البحث عن أسماء أعضاء الحكومة بشرط ألا يكونوا من علماء الدين. فطرح حزب نهضة حرية إيران أو «نهضت ازادي إيران» نفسه لتشكيل الحكومة في ظل الدعم الذي يحظى به من آية الله طالقاني (أحد أهم منظري الثورة الإيرانية وصديق الخميني). خصوصا أن زعيم حزب حرية إيران مهدي بازركان كان معارضا للشاه، وسجن إلى جانب آية الله مطهري وآية الله بهشتي وآيه الله منتظري، كما أن من قياداته إبراهيم يزدي الذي كان قريبا من الخميني ومن مستشاريه في باريس.
وقع الاختيار على بازركان ليرأس أول حكومة في عهد الثورة، وكان بازركان وإبراهيم يزدي بلباس مدني وربطة عنق وثقافة منفتحة على الغرب. ويقول هاشمي رفسنجاني في مذكراته حول أسباب التوترات التي بدأت تظهر بين رجال الدين وبين حكومة بازركان: إن بازركان كان مسلما ورعا، لكنه كان لا يؤمن بالحكومة الدينية، وإن الخميني عيّنه بشكل مؤقت للإشراف على الدستور وإجراء الاستفتاء، وإنه كان منفذا للقرارات فيما مجلس شورى الثورة هو الذي يصنع السياسات.
جلس بازركان على الأرض في منزل الخميني في قم ومعه وزراء حكومته الجديدة يقدمهم إلى الخميني. لم تكن هناك طاولة أو أوراق أو جلسة عمل، فقط حصيرة على الأرض جلس عليها الخميني مع الوزراء الجدد وقد خلعوا أحذيتهم. وكان هذا مؤشرا لما سوف يأتي، فالحكومة بات عليها أن تذهب إلى قم بدلا من أن تأتي قم إلى طهران.
كان رجال الدين أصحاب اليد العليا منذ البدايات الأولى ولو من وراء الستار، لكنّ الإيرانيين في تلك الأيام الأولى لم يكونوا يدركون حجم التوتر الخفي بين تيارات الثورة. خرج الناس سعداء في الشوارع يرددون: «بازركان.. بازركان.. منفذ أحكام القرآن»، و«رئيس وزراء إيران.. هو مهدي بازركان، لأن الخميني قال.. والخميني حامل القرآن»، فيما كان مقربون من الخميني بنتقدون بازركان بحجة عدم معرفته بالجانب السياسي في الفقه الإسلامي. وسرعان ما اصطدم بازركان بالكثير من العقبات، منها شعارات الثورة الدينية، ومجلس شوراها من آيات الله، وفكرة أنه منفذ لقرارات مجلس شورى آيات الله في قم.
وردا على توجه رجال الدين لتشكيل حكومة دينية، شكل حزب «توده» اليساري و«حزب حرية إيران» بقيادة مهدي بازركان ويد الله سحابي وإبراهيم يزدي، و«الجبهة الوطنية» بقيادة كريم سنجابي، إضافة إلى جماعات «فدائي خلق» و«مجاهدي خلق» و«بيكار» و«الفرقان» و«الحزب الشيوعي» الإيراني، جبهة واسعة لمعارضة أفكار الحكومة الدينية، لكنهم اختلفوا على نوع الحكومة المبتغاة، فحزب نهضة حرية إيران طالب بديمقراطية ليبرالية، أما الشيوعيون فطرحوا حكومة الطبقة العاملة، فيما كان الإسلاميون يطرحون مصطلح «الحكومة الإسلامية»، ودخل مطهري وبهشتي في مناظرات تلفزيونية لشرح وجهة نظر الإسلاميين، ثم لاحقا أسس رجال الدين حزب «جمهوري إسلامي» أو الجمهورية الإسلامية، ليكون لهم حزبا سياسيا يعبر عن أفكارهم بالرغم من عدم رضا الخميني عن فكرة الأحزاب السياسية عموما.
طرح الخميني فكرة استفتاء شعبي على نظام الحكم، فطلب بازركان أن يكون الاستفتاء على «جمهورية إسلامية ديمقراطية»، فرفض الخميني وأصر على أن تكون «جمهورية إسلامية». وعمق هذا الخلاف بين بازركان والخميني وإن كان صامتا. ثم حدث الاستفتاء في مارس (آذار) عام 1979 على سؤال واحد، وهو: «هل توافق على الجمهورية الإسلامية؟ نعم أم لا؟» وقد صوت 98 % بـ «نعم»، فأعلن قيام الجمهورية الإسلامية في أول أبريل (نيسان) 1979، وطلب الخميني انتخاب لجنة من رجال دين وقانونين لوضع «الدستور الإسلامي»، واجتمعت اللجنة في طهران وحدثت الكثير من الاختلافات، خصوصا حول مبدأ ولاية الفقيه، وأبدى بازركان وأبو الحسن بني صدر وإبراهيم يزدي وقطب زادة معارضتهم الشديدة. وقال بني صدر ساعتها إنها «ديكتاتورية رجال الدين»، فغضب أنصار الخميني، وقررت الحكومة الانتقالية الاستقالة ما لم تحلّ مسألة ولاية الفقيه. ويوضح بني صدر لـ«الشرق الأوسط» أن قادة التيارات الوطنية الليبرالية واليسارية فوجئوا برغبة رجال الدين في الإمساك بمقاليد السلطة في يدهم، موضحا أن الاعتقاد الذي ساد في بداية الثورة هو أن الخميني سيعود إلى قم ليكون بمثابة أب روحي للثورة، وأنه لا رغبه لديه في مشاركته، أو مشاركة رجال الدين عموما، في السلطة التنفيذية. إلا أن الأيام أثبتت أن هذه القراءة لم تكن صحيحة.
خرج الآلاف من أنصار رجال الدين وأنصار الجبهة الوطنية، ونشبت مواجهات حادة عنيفة قتل فيها ما لا يقل عن 3 وكأن الثورة لم تنتهِ بعد. وكان أمل الجبهة الوطنية الأخير هو الجيش، لكن الجيش كان يردد «الله أكبر.. خميني رهبر»، أي «خميني هو القائد»، فطلبت الحركة الوطنية والحزب الشيوعي حل الجيش لأنه من بقايا النظام السابق، لكنّ الخميني ومستشاريه ورجال الدين لم يقبلوا، فبدأت عناصر من الجبهة الوطنية واليسار تستولي على أسلحة الثكنات العسكرية. وخلال أشهر من التوترات تمت تصفية العشرات من رجال الدين المقربين من الخميني، من بينهم قائد أركان الجيش الإيراني المقرب من الخميني، وآية الله مرتضى مطهري، أقرب مساعدي الخميني، وصهر الخميني الدكتور إشراقي، وآية الله الطباطبائي، والدكتور مفتح ومهدي عراقجي، وآيه الله بهشتي، ومحمد علي رجائي وباهنر، فيما فشلت محاولات اغتيال علي محتشمي وموسوي أردبيلي وهاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي. لم يعد الخميني يثق بالجيش لأن الكثير من قياداته لم تتغير، والكثير منهم كان لديه مَيل ليبرالي، فقرر أن ينشئ خلايا الحرس الثوري أو حراس الثورة، التي كانت أولى مهامها القضاء على تحركات الأكراد، وهو ما تم في صيف 1979.
كانت إيران الثورة في حالة فوضى غير عادية، وكانت حساسية الإسلاميين من الليبراليين والجبهة الوطنية كبيرة جدا، يعززها الخوف من أن تتدخل أميركا لصالح الليبراليين ضد الإسلاميين. وذادت المخاوف بعد اجتماع بازركان وإبراهيم يزدي مع زبيجنيو برجنيسكي في الجزائر.
ويقول محمد علي مهتدي الصحافي في صحيفة «اطلاعات» الإيرانية لـ«الشرق الأوسط»: «كانت هناك احتفالات في الجزائر بمناسبة مرور 25 عاما على انتصار الثورة الجزائرية، وكنت في الجزائر وقتها، وكان هناك أبو عمار وهاني الحسن وكثيرون كانوا في الجزائر، فطلب برجينسكي اللقاء مع المهندس مهدي بازركان، ولم يكن هذا اللقاء مبرمجا أو معدا سلفا. بازركان لم يجد أي مانع للقاء مع برجينسكي والتباحث معه. ربما كان بازركان يريد أن يطمئن أميركا أن هذه الثورة لها مبادئ، وأنه إذا احترمت أميركا مبادئ الثورة ربما يكون بالإمكان الاتفاق على بدء نوع من الحوار، لأنه كان أول لقاء من نوعه وحضره من الجانب الإيراني بازركان، بالإضافة إلى وزير الدفاع مصطفى شمران، ووزير الخارجية إبراهيم يزدي. لم يحدث شيء، وكان لقاء يتيما، لكن يبدو أنه كانت هناك بعض التيارات تقف بالمرصاد في إيران، ولم يكونوا راضين عن هذا اللقاء بين برجينسكي وبازركان وفريقه، وخلقوا أجواء ضاغطة إعلامية وسياسية ضد الحكومة المؤقتة، وبعد ذلك حدث هجوم الطلبة على السفارة الأميركية وأخذ رهائن، ليستمر ذلك لمدة 444 يوما، ونتيجة لذلك استقالت حكومة مهدي بازركان لأنه كان يريد أن يصنع دولة تسير حسب القوانين الدولية». وفي 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 احتل طلبة إيرانيون السفارة الأميركية في طهران، وهو الحدث الذي يقول الكثير من داخل الجبهة الوطنية في إيران إنه تم بضوء أخضر من رجال دين مقربين من الخميني، بهدف «قلب الطاولة» على رجال الجبهة الوطنية والتيار الليبرالي لإضعافهم وتشديد قبضتهم. ويؤكد رفسنجاني أن مجلس شورى الثورة، الجهة التي كانت تحكم فعليا، لم يكن على علم بنية احتلال السفارة، موضحا: «كنت أنا وخامنئي قد ذهبنا إلى مكة للحج، وكنا نياما على سطح البيت الذي كنا نسكنه هناك. عندما سمعنا الأخبار عبر الراديو عرفنا أن الجامعيين سيطروا على السفارة الأميركية».
طالب مهدي بازركان وإبراهيم يزدي بإنهاء احتلال السفارة وإطلاق الرهائن، وهددوا بتقديم استقالاتهم. ويقول يزدي إن الخميني قال إنه لم يكن يعلم مسبقا بخطوة الطلبة للاستيلاء على السفارة الأميركية، فالطلبة لم يفاتحوا أحدا في الأمر سوى موسوي خوئيني، أحد مستشاري الخميني. ذهب يزدي إلى قم للقاء الخميني وحكى له خطورة خطوة احتلال الطلبة للسفارة الأميركية. ويقول يزدي إن الخميني رد عليه بقوله: «ألقوا بهؤلاء الطلبة في الخارج»، فقرر يزدي العودة إلى طهران لإنهاء أزمة الرهائن مع بازركان، على اعتقاد أن الخميني غير راض عن هذه الخطوة. غير أن اتصالا هاتفيا من موسوي خوئيني لأحمد الخميني، ابن الخميني، غيّر كل شيء، فقد تراجع الخميني عن موقفه، وفي الواقع وقف أمام تحرك حكومة بازركان لإنهاء أزمة الرهائن. وكانت هذه تحولات مفصلية، فقد أدت إلى انفصال بين التيار الوطني الليبرالي بقيادة الجبهة الوطنية، وبين تيار رجال الدين في الثورة، فقد قبل الخميني استقالة حكومة بازركان، وأمر مجلس قيادة الثورة بتصريف مهام الحكومة، وذلك بعد 9 أشهر فقط من توليها السلطة، ليخرج الليبراليون والحركة الوطنية من الحكم.
لاحقا دعا الخميني إلى انتخابات رئاسية، فترشح لها أبو الحسن بني صدر وجلال الدين الفارسي من الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي كان حتى ذلك الوقت يرشح سياسيين وليس رجال دين، ومسعود رجوي من مجاهدي خلق، وحسن حبيبي، وكان مقربا من الإسلاميين دون أن يكون رجل دين أو يرتدي اللباس الديني، مثله مثل بني صدر ورجوي. ألغى الخميني ترشيح جلال الدين الفارسي لأن والدته أفغانية، وألغى ترشيح رجوي لأنه لم يصوت في الاستفتاء على نظام الجمهورية الإسلامية، موضحا أنه لا يمكن لرجوي أن يكون رئيسا «لنظام لم يصوت له». فأصبحت المنافسة الحقيقية بين بني صدر وحبيبي ممثل الإسلاميين ضمنا، وحصل بني صدر على دعم الليبراليين والوطنيين وبعض رجال الدين وفاز بالانتخابات، وساعده على الفوز علاقته الجيدة بالخميني منذ أن كان مستشارا له في باريس. إلا أن الخميني في قرارة نفسه لم يكن مرتاحا لتولي بني الصدر الرئاسة، ففي الحقيقة صوت الخميني لحسن حبيبي كما قال أحمد الخميني، إلا أنه لم يقل للناس لا تصوتوا لبني صدر. بعد انتخابه توجه بني صدر إلى مستشفى القلب في طهران عام 1980 لينال مباركة الخميني وتكليفه بالرئاسة، فانحنى بني صدر وقبل يده. وقرأ أحمد الخميني كلمة والده لتنصيب بني صدر التي صاغها بعناية وقال فيها: «إني أنفذ رأي الشعب وأعين بني صدر في هذا المنصب، لكن هذا التعيين وتنصيبه ورأي الشعب مشروط بعدم مخالفته للأحكام الإسلامية المقدسة واتباعه للدستور الإسلامي الإيراني». لم يكن رجال الدين الذين جلسوا في الصفوف الأولى خلف الخميني سعداء، فيما كان الخميني مقطب الجبين. وبعدما انتهى أحمد الخميني من إلقاء كلمة أبيه قال الخميني عبارة واحدة عابسا: «إني أذكّر السيد بني صدر بجملة، وهي تذكرة للجميع، إن حب الدنيا رأس كل خطيئة. إني أطلب من السيد بني صدر ألا تتغير سيرته بعد رئاسة الجمهورية». ويتذكر بني صدر تلك الايام والظروف التي كان يعمل خلالها والضغوطات, موضحا لـ«الشرق الأوسط» «كانت هناك عدة عوامل غيرت مسار الثورة، وليس فقط الخميني، لكن بالطبع تأثيره كان كبيرا. كانت هناك ميول وحب للسلطة لديه، وهذا ما سهل بالنسبة إليه وضع يده على إيران بطريقة ديكتاتورية. بالطبع كان هناك فرقاء من اليسار أرادوا أن يلعبوا دور لينين في الثورة الإيرانية، بينما الإسلاميون كانوا قد بدأوا بالتصدي للنظام بقوة السلاح. وهناك قضية الرهائن والحصار الاقتصادي، كل هذه الأشياء لعبت دورا في إعادة تركيب الديكتاتورية في إيران. لكن لو كان الخميني يريد أن يلعب هذه اللعبة، لكان بإمكانه التصدي لها. حيث كان قد وعد أمام العالم أجمع، باحترام الديمقراطية والتقدم وحقوق الإنسان. وأنا أعتقد انه لو أراد أن يحترم وعوده لكان بإمكانه أن يفعل. كانت هناك بالطبع عوامل تدفعه باتجاه عدم احترامها، ولكن الخميني كان قويا لدرجة انه كان بإمكانه أن يقاوم لو أراد أن يحترم وعوده».  
من ناحيته يقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط» حول علاقة بني صدر مع الخميني: «بني صدر كان محسوبا على بيت الإمام (أحمد الخميني، أشراقي صهر الخميني، ومحمد منتظري، كانوا مؤيدين لبني صدر)، ومشكلته أنه كان مثقفا أكثر مما كان سياسيا. الخطأ الذي ارتكبته منظمة مجاهدي خلق أنها بدأت تعلن تحفظاتها للتيار الديني وللإمام الخميني وللثورة عموما بجانبيها الليبرالي والديني في لحظة الانتصار، ثم طورت ذلك إلى ممارسة العنف، فمورس قمع ضدها. أما الخلاف بين التيارات الليبرالية فقد بدأ أولا فيما بين التيارات الليبرالية، وبدأ بين تيار جبهة ملي (أو الجبهة الوطنية) كريم سنجابي الذي كان وزير خارجية، وبين حركة تحرير إيران، أي بازركان ويزدي. هؤلاء هم الذين بدأوا بإقصاء أو بمساعدة الإمام الخميني وترغيبه في إقصاء كريم سنجابي. أي حدث الخلاف في الصف الليبرالي في البداية لأن سنجابي كان أكثر ليبرالية منهم، وأقل قربا من تيار رجال الدين.. أما التناقضات بين التيار الليبرالي والتيار الديني فقد كانت موجودة منذ البداية، فقد كنت أراهم قبل نجاح الثورة وكانوا متعاطفين مع الإمام الخميني على أساس أنه طريق لدولتهم.. الإمام الخميني لاحظ هذه المسائل منذ البداية. كان الإمام الخميني يحاول أن يمسك العصا من الوسط، يحافظ على الجميع، إلى أن بدأ رجال الدين يطلون على السلطة، فبعد أن أصبح هاشمي رفسنجاني رئيسا لمجلس النواب بدأت شكاوى الليبراليين، وبدأوا يفتحون خطوطا على حسابهم، أي ضمن تصوراتهم الليبرالية. وبدأوا من خلال موقعهم في السلطة بعزل التيار الديني ومحاصرته، وارتكبوا خطأهم الكبير بأنهم التقوا مع برجنيسكي في الجزائر. جلسوا معه جلسة طويلة، ولم يفصحوا تماما للخميني عما حدث خلال اللقاء، فتفجرت الأمور في هذه اللحظة، فالإمام الخميني لم يعرف باللقاء مسبقا. وهنا يتردد أنه عندما التقى إبراهيم يزدي مع الخميني وتحدث معه حول اللقاء مع برجنيسكي تكلم يزدي 10 دقائق، فقال الخميني: أنتم جلستم مدة ساعة ونصف، لكنك تكلمت 10 دقائق فقط.. فبدأت الشكوك تنفجر».
ويتابع فحص: «بني صدر خلط بينه نفسه وبين الثورة والخميني، اعتبر أن الـ11 مليون صوت و700 ألف التي حصل عليها في الانتخابات له، علما أن سمعته كانت محصورة بين المثقفين، وهذا ليس انتقاصا منه، لكنه كان مثقفا، لم يكن منخرطا في عمل سياسي مباشر، ولم يكن معروفا شعبيا.. وصلت الأمور ببني صدر إلى أنه انحاز إلى مجاهدي خلق في النهاية، وهم الذين كانوا في الأصل أعداء له. وكانت طبيعة المثقف متحكمة فيه، أي يرى الأمور كما يحب وكما يكره، وبدأت تظهر ذاتيته، حتى إن الشعب الإيراني أسماه (اقاي من) أي «السيد أنا».. ومع ذلك ظل الخميني يعطيه فرصا ويطلب منه أن يراجع مواقفه، إلا أن بني صدر لم يتغير، وعمل مهرجانات كان جمهورها فقط مجاهدي خلق في لحظة صعبة، إلى أن تشكلت لجنة لدراسة أهليته وحكمت بفقدانه للأهلية، فأقصي من الرئاسة. أما مع بازركان، الخميني كان يحب بازركان، وكانت علاقته بحركة تحرير إيران علاقة طيبة أيام الثورة. مع بدء الدولة بدأت التميزات، وبدأ الجانب الليبرالي يتبلور أكثر، بمعنى أن التيار الديني يريد التيار الليبرالي مساعدا له وتحت إمرته، والتيار الليبرالي يريد من التيار الديني أن يكون داعما لدولته، وأن تصير الدولة ليبرالية، ويعود المتدينون إلى مواقعهم الأساسية في قم، وهذه مشكلة ولاية الفقيه. كنت في طهران يوم الانتهاء من وضع الدستور، وكانت جماعة بني صدر وبازركان يتناقشون مع الآخرين من رجال الدين.. الولي الفقيه، ماذا ترك في الدستور لرئيس الجمهورية؟ شعر الناس كلهم أن رأس الهرم هو المتحكم، وأن رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية تشتغل بأمر الولي الفقيه، وهي محدودة ومحاصرة. هذه هي المشكلات التي حدثت».
كان الصدام محتوما إذن بين بني صدر والخميني، ففي أدائه القسم لم يذكر بني صدر كلمة «ثورة إسلامية» أو «انقلاب إسلامي»، ولم يذكر عبارة «دستور إسلامي» أو «جمهورية إيران الإسلامية»، وتعهد بالعمل «وفاء للشعب»، لكن الأهم من كل ذلك أنه لم يذكر اسم الخميني، بل قال: «إني أقسم بالقرآن المجيد أن أكون وفيا للدستور، وأن أبذل قصارى جهدي دوما من أجل إعلاء اسم إيران، ومن أجل تحسين الوضع المعيشي للناس. وليس هناك أي سبب يجعلني لا أبذل هذا الجهد عندما يبدي أهلنا كل هذا الصفاء والصدق قبل وبعد انتصار الثورة، وأظهروا كل هذا الوفاء والاستقامة».
خلال 9 أشهر شهدت إيران صراعا متواصلا مكتوما وعلنيا بين التيارات الليبرالية وبين التيار الديني على اختيار أسماء أعضاء الحكومة وقيادات الدولة، وتعطل تشكيل الحكومة، وكان الصراع في البرلمان أكثر وضوحا بين الأقلية النيابية التي تدعم بني صدر، وبين النواب الذين يدعمون الحزب الجمهوري الإسلامي. وكان عدد هؤلاء كبيرا حتى إن أول برلمان كان غالبيته من رجال دين بعمامات وعباءات، وكان الصراع على شخصية رئيس الوزراء وهل يمثل التيار الليبرالي أو رجال الدين. ثم بشكل مفاجئ طرح بني صدر اسم أحمد الخميني لرئاسة الوزراء، وبعث رسالة إلى الخميني بهذا المضمون، جاء فيها: «سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، نظرا إلى الأوضاع الحالية، وبما أن مجتمعنا هو مجتمع شاب، ويشهد حماسا إيجابيا وتوجها نحو الإنتاج والنشاط، ولأن الجانب المعنوي الثوري هو المحرك الأساسي، لذلك أعتبر أن حجة الإسلام السيد أحمد هو أحد أنسب الأشخاص لرئاسة الوزراء. وأجد أن موافقتكم عين الصواب». فرد الخميني عليه بشكل مقتضب وحازم وسريع: «باسمه تعالى، لا أنوي أن يتسلم أبنائي مناصب. أحمد خادم للشعب، وفي هذه المرحلة إذا كان حرا يمكنه أن يخدم بشكل أفضل. والسلام عليكم».
تشكلت لجنة ثلاثية داخل مجلس الشورى للحوار مع بني صدر حول شخصية رئيس الوزراء، وتم وضع قائمة بها 14 اسما، شطب بني صدر نصفها وتبقى 7 أسماء، فقال بني صدر إن أي اسم منها يختاره البرلمان لن يمانع فيه. وقد صوّت المجلس في اجتماع مغلق على الـ7 الباقين، وتم اختيار محمد علي رجائي بأكثرية الأصوات، لكن العلاقات كانت شبه مقطوعة بين بني صدر ورجائي. وحاول بني صدر اللجوء إلى الشارع فدعا إلى مهرجان في جامعة طهران في ذكرى وفاة زعيم الجبهة الوطنية محمد مصدق، وحضر المهرجان كل أطياف اللون السياسي، وهناك أعلن بني صدر تشكيل جبهة وطنية لمعارضة رجائي وحزب الجمهورية الإسلامية. فأمر الخميني بتشكيل لجنة لدراسة الاختلافات بين مسؤولي الدولة، تتكون من طرف يمثل بني صدر وآخر يمثل الطرف المعارض والثالث يمثل الخميني. وأمر بني صدر وبهشتي ورجائي ورفسنجاني - كان رئيس البرلمان ساعتها - بعدم إعطاء أي تصريحات صحافية حول الخلافات بينهم حتى تنهي اللجنة عملها، لكن بني صدر تحدث لوكالة «رويترز» للأنباء وحذر من «نظام ديكتاتوري» في إيران مشابه لنظام الشاه. فواجه انتقادات شديدة في البرلمان وساءت العلاقات أكثر وامتدت إلى الشارع، ونشبت صدامات عنيفة في جامعة طهران، فتدخل الخميني في الأزمة لائما بني صدر، قائلا: «إن لحن الانتقاد يختلف عن لحن التآمر.. وإضعاف الجمهورية الإسلامية».
وسط هذه الصرعات والفوضى هاجم العراق إيران واستولى على خورمشهر، فتزايدت الانتقادات لبني صدر بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتزامن مع هذا إعلان الطلبة الذين احتلوا السفارة العثور على وثائق قالوا إنها تثبت تورط بني صدر في التجسس لصالح أميركا قبل سنة من انتخابه رئيسا لإيران. وفي 10 يونيو (حزيران) عام 1981، وبعد عام و4 أشهر على تعيين بني صدر رئيسا، أمر الخميني بعزله من قيادة القوات المسلحة ومن الرئاسة.
ويقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط» حول تحولات الخميني من رفضه المبدئي لتعيين رجال الدين في المناصب السياسية، ثم موافقته على ذلك لاحقا: «صبر الخميني على بني صدر وأعطاه الفرص.. وصبر على بازركان والجبهة الوطنية على الرغم من اللقاء المتسرع مع برجنيسكي.. وكنت حاضرا عندما تم إبلاغ الخميني بأن الحزب الجمهوري رشح جلال الدين فارسي - وهو مدني - لرئاسة الجمهورية. فسأل الخميني: وماذا فعل السيد بهشتي؟ فأجيب بأنه انسحب، فابتسم الخميني راضيا (أي لم يكن محبذا في البداية تولي رجال الدين مناصب تنفيذية). وكان سفير فلسطين وقتها حاضرا، وقلت له: أرايت؟.. هذا رجل (الخميني) ديني - مدني. فقال هاني الحسن: أتفق». ويتابع فحص: «لكن الخميني اضطر لاحقا إلى القبول بأن يتولى رجال الدين كل السلطات لأسباب تتصل بأداء القوى السياسية المدنية واستعجالاتها، والرغبة الجامحة لدى رجال الدين في السلطة. وقد حصل ذلك، وأذكر أن القوى الوطنية الليبرالية ارتأت أن الخميني لم يكن إلا محرضا في تاريخ الثورة، وأن الدولة هي شأنها حصريا، وأن الخميني لا يمكن أن يترك حتى يصادر الدولة. وفي اعتقادي أنه لم يكن يريد ذلك، ولكنه كان يلزم نفسه بأن تبقى روح الثورة في الدولة، وهي نظرية مثالية جميلة لكنها غير واقعية، ولذلك عدل عنها لاحقا عندما حوصر، وشرعت القوى السياسية تبني الدولة وعلاقتها بعيدا عنه.. بعدها بأسابيع كنت مع السيد حسين الخميني في دمشق حيث وصلنا خبر استيلاء الطلبة على السفارة الأميركية في طهران، فقال حفيد الإمام لي: جهز نفسك لنصل إلى طهران، فقد انفك الحصار عن الإمام. بعدها كان لا بد للخميني أن يزج بتلاميذه من المعممين وغيرهم إلى بناء الدولة، بعيدا عن القوى الليبرالية التي أساءت رسم سلم أولوياتها، فيما كنت أرى ضرورة عدم قمعها وإقصائها. هل تصرف الخميني بشكل مختلف من الثورة إلى الدولة؟ لا بد أن يحدث ذلك، وإلا كانت الكارثة. والثورة لا بد أن تؤدي إلى الدولة، ومنطقها يختلف عن منطق الثورة، والأفضل بين الثوريين الذين يحكمون هو أن يقصروا المسافة بين الدولة والثورة لأن إلغاءها مستحيل عمليا».
غير أن بني صدر يوضح أن تركيبة الخميني ومن حوله هي السبب في التوترات بينهما وليس طبيعة بناء الدولة, موضحا لـ«الشرق الأوسط» «جاء الخميني إلى هنا، فرنسا، وقال ما قاله أمام العالم حول الحريات والديمقراطيات والتقدم والإسلام، الذي يؤمن بالحرية. هل كان يعتقد بكل ما قاله لو كان يؤمن بذلك حقا؟ فانطلاقا من كونه رجل دين، لا يمكنه أن يقوم بعكس ما يؤمن به. لو لم يؤمن بما قاله، فهذا يعني أنه بالنسبة إليه، فإن السلطة كان تحتل الأولوية. وكونه رجل دين، يعرف أن الدين يعني الالتزام، ولا يمكنه أن يغير خطابه. ولكنه غير التزامه. وعندما فعل ذلك، تبين أن السلطة بالنسبة إليه كان لها الأولوية المطلقة».
جرد البرلمان بني صدر من صلاحياته السياسية وأقر الخميني القرار، وجرت انتخابات جديدة جاءت بمحمد علي رجائي رئيسا، إلا أنه اغتيل لاحقا. فدعا الخميني لانتخابات جديدة وسمح لأول مرة لرجال الدين بخوضها، وفي 2 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1981 انتخب علي خامنئي الرئيس الثالث للجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد بني صدر ورجائي، ليكون بذلك أول رجل دين معمم يحتل هذا المنصب في إيران، وعين مير حسين موسوي رئيسا للحكومة. وكان الخميني مرتاحا أخيرا لشخصية الرئيس ورئيس الوزراء وفي خطاب كلمة الخميني له، قال له: «عليكم أنتم المحافظة على هذا النظام.. فإن استمرار ما حصل في إيران أمر صعب، وعليكم القيام بحفظ هذا النظام رغم كل العقبات التي تواجهنا».
وبعد عامين و8 أشهر انتزعت الثورة الدولة لتصبح برئاسة خامنئي ورئاسة وزراء مير حسين موسوي ورئاسة رفسنجاني للبرلمان، لكن هذا تم على حساب شخصيات من الجبهة الوطنية، على رأسهم مهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر وإبراهيم يزدي وقطب زادة، وكانت الاختلافات كبيرة، وعلى رأسها الموقف من ولاية الفقيه، والحكومة الدينية. اختار بازركان ويزدي الانسحاب بهدوء، واختار قطب زادة وبني صدر المواجهة العلنية.
الحلقة (5) ـ أبو الحسن بني صدر لـ«الشرق الأوسط»: فوجئت برغبة الخميني في الإمساك بمقاليد السلطة... وأول رئيس إيراني بعد الثورة يروي الخلافات مع الخميني.. ورأيه في خامنئي ورفسنجاني
يقول أبو الحسن بني صدر، أول رئيس إيراني بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، أن آية الله الخميني غير وجهة نظره حول ولاية الفقيه 5 مرات من قم إلى النجف إلى باريس إلى طهران، موضحا في حوار مع «الشرق الأوسط» أنه فوجئ بعد الثورة برغبة الخميني في الإمساك بمقاليد السلطة، غير أنه يشدد على أنه لم يندم على قيام الثورة الإيرانية. ويوضح بني صدر أنه عندما كان رئيسا لإيران، بين 1980 و1981، عاني من الضغوطات التي شكلها رجال الدين الذين كانوا يريدون إحكام سيطرة رجال الدين على مؤسسات الحكم. ويشير إلى أن الخميني عندما كان في باريس كان محاطا بالمثقفين والمفكرين الذين كان الخميني يعتمد عليهم في كتابة أجوبته لأسئلة الصحافة الغربية، مشيرا إلى أن الخميني في هذه المرحلة كان «تحرري» في أفكاره، إلا أنه عندما هبطت طائرة الخميني في مطار طهران يوم 1 فبراير (شباط) 1979 دخل اثنان من كبار رجال الدين المقربين من الخميني إلى الطائرة وغادر معهما، وكانت هذه نهاية تأثير المثقفين والمفكرين وبداية تأثير رجال الدين على دولة الثورة. كما يتحدث بني صدر عن ترشيح الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي للرئاسة الإيرانية في يونيو (حزيران) المقبل، موضحا أن من سيطبع العلاقات مع أميركا سيصبح بطلا قوميا في إيران.. فمن يريد المرشد الأعلى لإيران آية الله خامنئي أن يصبح بطلا قوميا.. محمد خاتمي أم محمود أحمدي نجاد؟ وهنا نص الحوار:
* هل ندمت يوما على قيام الثورة في إيران على أساس أن أوضاع حقوق الإنسان والديمقراطية، كما يقول البعض داخل وخارج إيران، ليست أفضل حالا بكثير مما كانت عليه قبل قيام الثورة؟
ـ لا أبدا. فالثورة الإيرانية لم تطلب موافقة أو عدم موافقة، الثورة حصلت من قلب المجتمع، ولكن أيضا في وقت بدء تغيير على الصعيد الدولي. كان هدف الثورة الإيرانية تحقيق الاستقلال والحرية والتقدم، وإرساء إسلام يفهم كل هذه الأسس ويفتح آفاقا روحية جديدة للإنسان. لهذه الأسباب قمنا بالثورة. والثورة حدثت في إيران لأنها كانت محاصرة بين القوتين العظميين في العالم حينها (أميركا والاتحاد السوفياتي السابق). كانت الثورة تعني أن فترة توسع هاتين الدولتين انتهت، وبدأتا بالتراجع.
* هل تعتقد أن الخميني كان مؤمنا بالديمقراطية في بداية الثورة، ثم عندما نجحت الثورة غير آراءه وطبق مفهوم ولاية الفقيه؟
ـ من الصعب أن نقول إنه كان يعتقد بذلك، فلو كان يعتقد بذلك، لكان من الصعب جدا أن يغير أفكاره بهذه السهولة. جاء الخميني إلى فرنسا، وقال ما قاله أمام العالم حول الحريات والديمقراطيات والتقدم والإسلام الذي يؤمن بالحرية. فهل كان يعتقد بكل ما قاله؟ لو كان يؤمن بذلك حقا، وانطلاقا من كونه رجل دين، لا يمكنه أن يقوم بعكس ما يؤمن به، لما تغيرت أفكاره. لكن السلطة كان تحتل الأولوية بالنسبة إليه.
* ماذا قلت عندما رأيت مبدأ ولاية الفقيه في الدستور الإيراني؟
ـ في البداية عندما كنا نحضر لأول دستور إيراني بعد الثورة، كان أساسه سيادة الشعب وليس سيادة الولي الفقيه. مجلس الخبراء ورجال الدين كانوا يتمتعون بالأغلبية، حاولوا إدخال مبدأ ولاية الفقيه وجعله مصدر الحكم والسلطات. وقد تناقشت كثيرا مع آية الله على منتظري في حينها، الذي كان يرأس مجلس الخبراء. (منتظري كان نائبا للخميني إلى أن تم عزله بعد خلافات بينهما). في البداية أراد الخميني سلطة كاملة للولي الفقيه، ثم في النهاية وافق على أن يكون الولي الفقيه بمثابة نظام مراقبة. لهذا فإن القانون الإيراني لا يعطي القوة التشريعية ولا التنفيذية ولا القضائية لنظام ولاية الفقيه، إلا أنه عمليا يتحكم في مفاصل الحكم.
* هل تعتقد أن الخميني استغل الليبراليين ثم تخلى عنهم وعن أفكارهم عندما أقر نظام ولاية الفقيه الذي أعطى الكلمة العليا في الحكم لرجال الدين؟ ـ كثيرون يقولون ذلك، ولكن هذا ليس صحيحا، لأنه في ما يخص ولاية الفقيه، غيّر الخميني رأيه خمس مرات، بحسب ما يقول آية الله على منتظري في مذكراته. فعندما كان الخميني في قم، في ظل عهد الشاه، كان ضد مبدأ ولاية الفقيه. ثم في حوزة النجف بالعراق، علّم الخميني ولاية الفقيه لطلابه، وحددها بأنها تطبيق للقوانين الإسلامية. (أعطى الخميني 19 درسا في النجف حول ولاية الفقيه، ثم حول المحاضرات إلى كتابه: حاكمية الإسلام: ولاية الفقيه). وقد سألته مرة، عندما التقيته في النجف إذا كان يعلّم هذا المبدأ لكي يبقى الشاه في السلطة إلى الأبد؟ (على أساس أن الشاه سيستغل ذلك ضد حركات المعارضة) فأجاب الخميني: «لا.. ذلك فقط لنفتح نقاشا حتى يتمكن أشخاص من أمثالك أن يصوغوا النظرية». ثم جاء الخميني إلى فرنسا، واكتشف هناك أنه إذا تحدث عن ولاية الفقيه، فإن الشاه سيبقى على العرش، فيما سيعيش الخميني في المنفى باقي عمره. فتحدث الخميني عن «ولاية الجمهور» بدلا من «ولاية الفقيه». وكانت هذه هي المرة الثالثة التي يغير فيها رأيه. ثم عندما تم تشكيل مجلس الخبراء بعد نجاح الثورة، عاد هذه المرة ليتحدث عن «ولاية الفقيه» ولكنه وافق في النهاية على أن تلعب ولاية الفقية دور «مراقب» فقط، أى أن يكون سلطة إشرافية. ثم مع اقتراب نهاية حياته، قبل انتهاء الحرب الإيرانية - العراقية، تحدث الخميني عن «السلطة المطلقة لولاية الفقيه». وكانت هذه هي المرة الخامسة التي يغير فيها رأيه حول «ولاية الفقيه». أي رأي كان رأيه الحقيقي؟ أنا أقول إن الخميني لم يكن رجل أفعال، بل رجل ردود أفعال، كان يتأقلم بشكل جيد جدا مع الأوضاع، أى أن التحولات في أفكاره حول ولاية الفقيه، كانت مرتبطة بتحولات على الأرض.
* ما الشيء الذي كان يقوده إذا لتتغير أفكاره حول ولاية الفقيه؟ ـ السلطة هي التي كانت تقوده. عندما كان الشاه لا يزال في الحكم، والخميني في قم، كان يعرف أن الحديث عن ولاية الفقيه سيؤدي به إلى المنفى. أما في النجف فقد تحدث عن تطبيق الولاية الإسلامية لأنه كان ضد حكم الشاه على أساس أنه حكم ضد الإسلام. وفي فرنسا، كانت الثورة الإيرانية تتأجج، وبدأ حكم الشاه يضعف، فبدأ الخميني يتحدث عن «ولاية الجمهور». وفي إيران، عندما وصل للسلطة بعد الثورة تحدث الخميني عن ولاية الفقيه. هذا يفسر بشكل جيد التغييرات الدورية في آرائه في هذا الخصوص، ويبرهن على أنه كان يتأقلم مع احتياجات الوصول إلى السلطة.
* هل فوجئت برغبة الخميني في الإمساك بمقاليد السلطة بنفسه؟
ـ كليا، بالطبع. لأنه بحسب ما كنا نؤمن به منذ طفولتنا، فإن رجل الدين هو شخص لا تحركه السلطة، بل هو شخص زاهد. فأن نرى رجل دين يغير رأيه بهذه السهولة فقط لدواعي السلطة، كان أمرا صعب تصوره.
* قلت من قبل إن الخميني وصل للثورة متأخرا، ولم يكن واثقا من نجاحها. ما الذي تعنيه بذلك؟
ـ عندما كان الخميني في النجف، وكانت الحركة الوطنية قد بدأت تتأجج في إيران، لم يكن الخميني مستعدا للتدخل، لأنه خشي من أن تكون حركة المعارضة هذه من دون مستقبل وأن تنطفئ سريعا. فأخر الخميني رد فعله طوال أربعين يوما. الحركة الاحتجاجية الواسعة بدأت في شهر يناير (كانون الثاني) 1978، ثم في أبريل (نيسان) 1978. وبدأ الخميني التجاوب معها عندما رأى أن للحركة مستقبلا. عندما جاء إلى فرنسا كان خائفا، لأنه في هذا الوقت كان الصحافيون في إيران يرسلون تقارير يقولون فيها إن هذه ثورة لا تعرف ماذا تريد وتتحدث عن سلطة الإسلام لكن لا أحد يمكنه أن يحدد ماذا يعني ذلك. كانت حملة دعائية ضد الثورة. ووجد الخميني نفسه في فرنسا حيث للإعلام رأى سلبي في الثورة الإيرانية، لذلك لم يكن واثقا من أن الشاه سيرحل وأن الثورة ستنجح، حتى أنه تم شراء منزل له في فرنسا في حال لم تنجح الثورة، لكي يبقى فيه.
* كيف يمكنك وصف المرشد الأعلى لإيران آية الله على خامنئي وهاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس الخبراء وغيرهم من رجال الدين الذين كانوا محيطين بالخميني في ذلك القوت؟
ـ رافسنجاني وغيره لم يكن لديهم تأثير حينها، فقد كانوا رجال دين غير معروفين. الخميني كان الشخص المهم. قبل الثورة كان الخميني بحاجة إلى المفكرين، وقدرته على التأقلم كان جيدة لدرجة أنه تأقلم مع خطاب هؤلاء المفكرين. كانت هناك لجنة مؤلفة من هؤلاء المفكرين المحيطين بالخميني في باريس تأخذ أسئلة الصحافيين وتحضر أجوبة يرددها الخميني على الصحافيين. عندها كان الخميني «تحرري». ولكن عندما عاد إلى إيران، لحظة هبوط الطائرة في طهران، دخل اثنان من رجال الدين إلى الطائرة وغادر الخميني معهما (آية الله مطهري وآية الله بهشتي). وهكذا كانت نهاية عهد المفكرين وبداية عهد الملالي. شكل الخميني مجلس الثورة، وأنا أصبحت عضوا فيه بعد شهر، ورفسنجاني أيضا كان عضوا فيه. لقد اختار الخميني رجال دين غير معروفين لأنهم كانوا يأتمرون بأوامره، بينما رجال الدين الكبار يتمتعون بالاستقلالية.
* هل كنت ضمن الحلقة الضيقة للخميني التي كان يستمع إليها؟
ـ كلا، الخميني في الخارج، فرنسا مثلا، كان يستمع إلى المفكرين، ولكن في إيران كان هناك الكثيرون حوله، خاصة من رجال الدين ذوى الميول الراديكالية. ولكن أهم من كان يستمع إليه الخميني كانت السلطة وما تتطلبه.
* قلت مرة إنك كنت ستتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار لإنهاء الحرب الإيرانية – العراقية عندما كنت رئيسا لإيران بين 1980 و1981، لكن ذلك لم يحدث لأن رجال الدين أرادوا استمرار الحرب. لماذا؟ وهل تعتقد أن الحرب العراقية - الإيرانية كان أداة لتصفية الليبراليين ورجال الحركة الوطنية؟
ـ يوم تنفيذ الانقلاب ضدي في يونيو (حزيران) عام 1981 قلت في أحد بياناتي إن أحد أسباب هذا الانقلاب ضدي هو أن رجال الدين في السلطة يريدون مواصلة الحرب. وزير دفاع بريطانيا في ذلك الوقت عندما كانت مارغريت تاتشر رئيسة للوزراء، قال إن البريطانيين فعلوا كل ما باستطاعتهم لكي تبدأ الحرب الإيرانية - العراقية ولكي تستمر. هل عقد الخميني والمقربون منه صفقة مع البريطانيين لكي تستمر الحرب؟ هذا الأمر بحاجة إلى وثائق لتأكيده. ولكن الخميني لم يكن بحاجة إلى هذه الصفقة لكي يطالب بمتابعة الحرب. فحتى اليوم، يقولون ذلك في إيران. قبل عدة أيام قال محسن رضائي، القائد السابق للحرس الثوري الإيراني إنه لو لم تستمر الحرب حينها، لم يكن باستطاعة السلطة الحالية في إيران أن تتبلور وتتشكل. فالخميني كان بحاجة إلى استمرار الحرب. رجال الدين أرادوا أن يفتتوا الجيل الذين غير نظام الشاه بتلك الثورة الشعبية، أرادوا تحييد ذلك الجيل. وخلال الحرب الإيرانية - العراقية، جرى تدمير وتحييد جيل بكامله عن الساحة السياسية، فهم إما قتلوا خلال الحرب التي استمرت ثماني سنوات، أو لم يتمكنوا من مواصلة أى عمل سياسي بسبب الحرب، فتمكن رجال الدين من فرض سطوتهم على إيران. أما في ما يخص أزمة الرهائن الأميركيين بعد احتلال الطلبة الإيرانيين للسفارة الأميركية، فبالطبع عقدت السلطات في إيران صفقة سرية مع إدارة رونالد ريغان لإطلاق الرهائن الأميركيين، في إيران ولبنان. (جزء منها كان معروفا تم الاتفاق عليه في الجزائر ويقضي بالإفراج عن نحو 7 مليارات دولار من الأموال الإيرانية التي جمدتها أميركا بعد الثورة مقابل إطلاق الأميركيين المحتجزين في السفارة الأميركية بطهران، وجزء آخر متعلق بشراء أسلحة أميركية وإسرائيلية لدعم المجهود الحربي الإيراني خلال الحرب مع العراق مقابل إطلاق أميركيين محتجزين في لبنان، وهى الصفقة التي عرفت بإيران غيت).
* قلت مرة إن جماعة الخميني كانت لا تمانع في فتح حوار مع الولايات المتحدة، فيما أنت كنت تمانع. فلماذا؟
ـ لم أمانع، ولكن بالنسبة لي، فإن العلاقات الطبيعية كانت مقبولة، ولكن ما لم يكن مقبولا هو العداء في الظاهر، ثم اعتماد سياسة عقد صفقات في السر، كما حدث عندما جرى فضح قضية «إيران غيت». واليوم يحصل الأمر نفسه، فهناك حديث عن مفاوضات سرية مع المقربين من الرئيس الأميركي باراك أوباما وبين مسؤولين إيرانيين. فكيف يمكن لنظام يقول إنه إسلامي أن يسمح بهذه التصرفات؟ كل هذا بالنسبة لي فساد يسمح بأن تستمر الديكتاتورية. أنا أؤيد العلاقات الطبيعية المفتوحة والشفافة كي لا يعود الشعب خائفا. فالنظام الإيراني يقول إن الأميركيين يريدون قلب نظام، مما يسهل تبرير القمع الداخلي والمواقف العدائية.
* من هي إذا الطبقة التي تحكم إيران اليوم؟ هل ما زال رجال الدين نافذون كما كانوا في بداية عهد الثورة؟ ـ نفوذ رجال الدين في إيران شارف على الانتهاء.. في الوقت الحاضر المافيا العسكرية - المالية هي التي تحكم. من يملكون قوة السلاح والمال يحكمون. جزء كبير من الاقتصاد الإيراني بيد الحرس الثوري، وعدد كبير منهم في السلطة التنفيذية وفي البرلمان وفي السلطة القضائية، وحتى النشاطات الثقافية جزء كبير منها في أيدي الحرس الثوري.
* كيف تصف المرشد الأعلى خامنئي؟
ـ خامنئي ضعيف. ولذلك سمح للمافيا بالسيطرة على الدولة. رجال الدين حذروه من أن سياسته يمكن أن تكون كارثية على طبقة رجال الدين، وأن الطبقة التي تملك المال والسلاح ستحكم (الحرس الثوري) وهذا سيجعل الشعب مستاء، وسيعبر عن استيائه لنا لأننا سبب هذا الوضع. ولأنه رجل ضعيف، ترك الأمر يصل إلى هذا الحد. فليس هناك تفسير آخر لكيف تمكن جزء من الحرس الثوري من السيطرة على الدولة الإيرانية بهذا الشكل.
* عندما تم اختيار خامنئي ليحل مكان الخميني، هل استغربت؟
ـ في الواقع لقد اعترضت على هذا التعيين، لأن خامنئي لم يكن من بين الزعماء الدينيين الكبار، بل كان رجل دين متوسط المكانة، وبحسب الدستور لا يمكنه أن يحل محل الخميني.
لقد تردد أن هناك رسالة من الخميني لرئيس مجلس الخبراء، قال فيها الخميني إنه من غير الضروري أن يكون خلفه من بين الزعماء الدينيين الكبار أو من آيات الله، وإنه يمكن تعيين أى رجل دين إذا كان يتمتع بالصفات القيادية. لكن أنا سألت خبراء عن الرسالة هنا في فرنسا، فأكد الخبراء الدوليون أن هذا ليس خط يد الخميني، وأن هذه الرسالة مزورة. عارضت السفارة الإيرانية ذلك، وكان الرد أنه إذا كان هناك اعتراض، يمكن الذهاب إلى المحكمة. بالطبع لم تذهب السفارة الإيرانية إلى المحكمة لأن الرسالة كانت مزورة. لكن حتى لو لم تكن مزورة، فإن الخميني لم يكن لديه الحق لأن يقول لمجلس الخبراء أن يختار شخصا لا يتمتع بالصفات اللازمة لكي يخلفه.
* ما رأيك بالرئيس الإصلاحي محمد خاتمي وترشحه للانتخابات الرئاسية في يونيو (حزيران) المقبل؟ هل تعتقد أنه أخذ الضوء الأخضر من المرشد الأعلى؟
ـ التزامات خاتمي تظهر أنه بالفعل أخذ الضوء الأخضر من خامنئي، وإلا كيف يمكن تفسير أنه منذ إعلان ترشحه، أكد لخامنئي أنه ليس فقط وفيا للنظام، بل سيحترم القوة المطلقة لخامنئي.
* هل تعتقد أن هناك قرارا من خامنئي أن فترة رئاسية واحدة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تكفي، وأن فترة باراك أوباما في إيران تحتاج إلى وجه مثل خاتمي في إيران؟
ـ إذا كان خامنئي والمافيا المالية - العسكرية في إيران قرروا تطبيع العلاقات مع الأميركيين، فان أحمدي نجاد سيكون في وضع أفضل من محمد خاتمي لكي يفعل ذلك. فكما قال أحد المحللين الإيرانيين، إذا تمكن أحد من تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، فإنه سيصبح بطلا قوميا في إيران. فهل يمكن أن نتخيل أن يسمح خامنئي لخاتمي بأن يصبح بطلا قوميا؟ بحسب القوانين الراهنة، فإن السياسة الخارجية تعود لخامنئي، فإذا قرر هو تطبيع العلاقات، فلن يعود هناك فرق بين أحمدي نجاد وخاتمي.. لكن السؤال من يريد خامنئي أن يصبح بطلا قوميا؛ أحمدي نجاد أم خاتمي؟
* بعيدا عن العلاقات مع أميركا.. هل تعتقد أنه لو أراد خاتمي إحداث تغيير وبدء إصلاحات داخلية ديمقراطية وفي مجال حقوق الإنسان.. هل سيتمكن من تحقيق ذلك؟
ـ في ظل هذا النظام.. مستحيل. ورجال الدين يقولون له هذا الأمر بوضوح.
* هل أنت إذا متفائل أم متشائم من مستقبل إيران؟
ـ أنا متفائل جدا، لأن التغيير على صعيد الشعب مستمر. اليوم الشعب الإيراني يفهم أن الديمقراطية ضرورية لكي تخرج إيران من العزلة والفقر والعنف. الحركة لن تتوقف وهذا شيء سيستمر رغم الكبت، وهذا أمر حتى في عهد الشاه لم نر مثله.
* هل تتوقع ثورة ثانية في إيران؟
ـ حركة شعبية واحدة تكفي، والأمر يتوقف على عامل الخوف. إذا تقلص الخوف من الخارج، آمل أن تقترب هذه الحركة. أملي مبني على أن الشعب الإيراني يعرف الآن ماذا يريد. يريد الديمقراطية. كان هناك أشخاص وقت الثورة لم يكونوا مع الديمقراطية، هم اليوم معها. فالنظام فقد شرعيته. وكل العوامل الخارجية والداخلية حاضرة لكي تستعيد إيران بعد ثلاث ثورات، ديمقراطيتها. الشعب الإيراني لديه رغبة في التغيير، لكن السلطة في الوقت الحالي لديها أموال البترول، واقتصاد إيران يعتمد على هذه الأموال. لذلك في الوقت الحالي، إذا أردنا التحدث اقتصاديا، فإنها ليست الدولة التي تعتمد على الشعب، بل العكس. الشعب أو المجتمع يعتمد على الدولة التي تملك الأموال والقوة المسلحة وعنصر الخوف، وهو العنصر الأهم. تخيلوا 70 مليون إيراني بحاجة لكي يستوردوا حتى موادهم الغذائية. إيران اليوم هي أول مستورد للقمح في العالم، أضيفوا إلى ذلك التهديد الذي عاشته إيران خلال فترة حكم الرئيس الأميركي جورج بوش، من ضربة عسكرية، إلى حصار اقتصادي. إذا لم يشعر الإيرانيون أن هناك تهديدات جدية ضدهم.. فإنهم سيتحركون نحو الحرية.
الحلقة (6) - محسن كديور لـ «الشرق الأوسط»: 3 قوى من المحافظين تحكم إيران اليوم..... المفكر الإيراني البارز يتحدث عن تنازع القوى وقلق خامنئي من الاصلاحيين.. و«الحلقة الضيقة» حول المرشد الأعلى التي تتخذ القرارات.... دور قم في إتخاذ القرار السياسي تراجع في الأونة الأخيرة لصالح طهران
قبل عامين قال المفكر الإيراني البارز حجة الإسلام محسن كديور لـ«الشرق الأوسط» إن الولي الفقيه المقبل لإيران لن يكون من قم.. بل من طهران. ومن يتابع التطورات في إيران اليوم يلحظ أن موزاين القوى تتحول من قم الى طهران بسرعة كبيرة. فكل موارد القوى (اقتصاد-سياسة- أمن) باتت في طهران، فيما فقدت قم ورجال الدين فيها الكثير من نفوذهم التقليدي. البعض يرى هذا تطورا سلبيا، والبعض يراه تطورا ايجابيا. والبعض الآخر لا يعرف بالضبط تأثير هذه التحولات على مستقبل إيران، ومن هؤلاء محسن كديور، الذي يقول في حوار جديد أجرته معه «الشرق الأوسط» أخيرا إن إيران لديها اليوم بازار جديد، غير البازار التقليدي في طهران، لكن هذا البازار لا يعلم أحد عنه الكثير، وهو عبارة عن رجال أعمال يملكون المال لكنهم لا يملكون العقل وهذا ما يجعلهم خطرين، بحسب قوله. كما يتحدث عن ثلاثة قوى من المحافظين تحكم إيران اليوم، هم المحافظون الجدد، ممثلون في تيار علي لاريجاني رئيس البرلمان ومحمد قليباف عمدة طهران. والمحافظون التقليديون ويمثلهم البازار. والمحافظون الراديكاليون ويمثلهم الحرس الثوري. ويتذكر كديور انه قبل نحو 30 عاما عندما كان آية الله الخميني في باريس، جاءت صحافية من صحيفة «الفيجارو» الفرنسية تسأله: «ما الذي تعنيه بالجمهورية الاسلامية وما هي طبيعة هذه الجمهورية في إيران.. فقد سمعنا عن جمهوريات إسلامية في ليبيا وباكستان وموريتانيا لكن أيا منهم ليست جمهورية ديمقراطية»؟ فرد عليها آية الله الخميني: «الجمهورية الإيرانية تماما مثل أي جمهورية أخرى». فسألته الصحافية: «أرجوك.. هل يمكن أن توضح أكثر»؟ فرد عليها الخميني: «دولة جمهورية مثل الجمهورية الفرنسية». ويتابع كديور: «كان هذا الحوار منذ 30 عاما، فقد كان في عام 1979.. وصدقنا ما قاله الخميني». وهنا نص الحوار:
* هل هناك تنازع بين القوى التي تحكم إيران اليوم؟ ـ نعم.. لكن تدريجيا ومع الزمن بات حيز السلطة يضيق أكثر فأكثر. بات مقصورا على المرشد الأعلى والمؤمنين بولاية الفقيه، وبالتالي صار هناك عرف وليس قانونا مكتوبا وهو أنه إذا أراد شخص أن يعمل في السياسة فعليه أن يؤمن بولاية الفقيه، إذا لم تكن مؤمنا، لا يمكنك المشاركة لا في البرلمان ولا في الرئاسة ولا في المجالس المحلية أو كحاكم لأي منطقة. هذا يعني أن السياسة في إيران مشروطة، وهذا الشرط هو الايمان بالولي الفقيه. تدريجيا المواطنون الايرانيون ابتعدوا عن السياسة. أعتقد أن تنازع القوى الآن انتقل من حيز السياسة إلى حيز الاقتصاد وحيز الاجتماع وحيز الثقافة وهذا سيكون له تأثير كبير على مستقبل إيران. فاليوم الشباب الإيراني يعيشون حياتهم بطريقة مختلفة تماما عن السيناريو الذي تتصوره الحكومة، فهم لا يؤمنون بأيدولوجيتهم، ولا أفكارهم، يؤمنون فقط بما يعتقدونه، وهذا مختلف جدا عما ينقل في التلفزيون أو يقوله المرشد الأعلى.
* ما هو برأيك مستقبل الاصلاحيين في إيران وحظوظهم في انتخابات الرئاسة في يونيو المقبل؟ ـ وضع الاصلاحيين في انتخابات الرئاسة سيكون أفضل في اعتقادي من وضعهم في انتخابات البرلمان العام الماضي، لانه في البرلمان يمكن تصفية العديد من الاصلاحيين، لكن في الرئاسة، الوضع مختلف، فأسماء الاصلاحيين معروفة جدا ولا يمكن استبعادهم بسهولة. أحدهم هو مهدي كروبي الذي كان رئيسا للبرلمان لمدة 8 سنوات خلال ولاية محمد خاتمي. وطبعا خاتمي نفسه. وعلى الرغم من أن البعضاأنتقد سياسات خاتمي الناعمة إزاء المحافظين، إلا أن خاتمي شخص جيد، وأعتقد أنه لا أحد يمكن أن ينافسه على الرئاسة، لا بين الاصلاحيين ولا بين المحافظين. والسيد خامنئي يعرف هذا. لكن المشكلة أن خاتمي اذا انتخب مجددا، فإنه قد لا يكون قادرا على تأدية عمله بطريقة أفضل مما كان عليه الأمر خلال الثماني سنوات التي كان فيها رئيسا. فالمشكلة في إيران ليست مشكلة أداء الرئيس، لدينا مشكلة في الدستور الإيراني وأعتقد أن خاتمي لا يستطيع حلها ( يقصد القيود على أداء الرئيس من مؤسسات غير منتخبة مثل مجلس صيانة الدستور ومجلس الأوصياء). كذلك كروبي لا يستطيع حل هذه المشاكل، ففي انتخابات البرلمان الماضي احتل حزبه مرتبة متأخرة وسط الأحزاب الاصلاحية.
* هل ما زال البازار قادرا على التأثير سياسيا؟ ـ لدينا بازار جديد (يضحك) في إيران. البازار التقليدي دعم المحافظين التقليديين، أي طبقة رجال الدين. أما كوادر الإعمار والبناء (حزب براغماتي أسسه هاشمي رفسنجاني نهاية الثمانينيات من القرن الماضي) فيدعمه التكنوقراطيون والمهندسون وليس البازار التقليدي وهم أغني من البازار التقليدي. لكن هناك ايضا بازار جديد في إيران وهؤلاء مجموعات من رجال الأعمال القريبين من الحكومة، وهم حريصون على متابعة كل مجريات الأمور، يريدون الحصول على المعلومات ويريدون الحفاظ على ثرواتهم، وهؤلاء أغنى من التكنوقراط، وليسوا معروفين أو مشهورين لكنهم أثرياء جدا. غير أنهم ايضا لا يتمتعون بالخبرة الكافية، وهذا يجعلهم خطرين. فهم لديهم المال لكن ليس لديهم العقل.
* هل هؤلاء هم القوة التي تدعم أحمدي نجاد؟ ـ ربما بعضهم.. لكن أحمدي نجاد ليس قويا جدا كما يعتقد البعض، هو مجرد جندي في جيش المرشد الأعلى. هذه النخبة الاقتصادية قريبة أكثر من مركز صنع السياسة في إيران. ليس لدينا معلومات كافية عنهم لكننا نعرف أنهم اقوياء جدا، وهم في إيران، الكثير منهم له خلفية عسكرية، أي عمل في المؤسسات العسكرية قبل أن يتجه للمال والأعمال. بعضهم كان يعمل في دول الخليج وعادوا إلى إيران بأموال هائلة.
* هل ولاء هؤلاء للمرشد الأعلى وولاية الفقيه؟ ـ ليس لدى معلومات كافية حولهم، أعرف فقط بعضهم، وهم أغنياء جدا وتدريجيا بدأوا يبتعدون عن الساحة السياسية. وهم أقوياء جدا بسبب علاقاتهم وخلفياتهم والمعلومات التي يعرفونها، كذلك هم إذا أرادوا فعل شئ، فإن لديهم القدرة. بإختصار هذه النخبة الجديدة أقوى من البازار التقليدي ومن الحكومة. فالبازار التقليدي يؤيد المحافظين التقليديين ورجال الدين في قم. اما التكنوقراط فبعضهم يؤيد الاصلاحيين، وبعضهم الآخر يؤيد المحافظين الجدد. أما النخبة الجديدة فأعتقد أنه سيكون لها دور في مستقبل إيران لكن للأسف ليس دورا جيدا في اعتقادي. انا لست متفائلا بدورهم لاأهم لا يتمتعون بالخبرة اللازمة، أو المعرفة، لكن يجب أن ننتظر ونرى.
* هل انتقادات رئيس البرلمان علي لاريجاني وعمدة طهران محمد قليباف والقائد السابق للحرس الثوري محسن رضائي، وكلهم من التيار المحافظ، لسياسات أحمدي نجاد دليل على تفكك يحدث وسط المحافظين؟ ـ لست متفائلا كثيرا بهذه المجموعة من المنشقين عن المحافظين. النظام الإيراني أزاح الاصلاحيين تدريجيا، وهو يحتاج الآن إلى معارضة داخلية، لكن معارضة داخلية في يد المرشد الأعلى. السيناريو مكتوب بالفعل وهم سيلعبون بهذه الطريقة. السيناريو هو منافسة بين فريقين من داخل التيار المحافظ. كان هذا هو الوضع بعينه في العقد الأخير من حكم الشاه. فقد أنشأ حزبين تابعين له كي ينافسا بعضهما البعض، أحدهما كان «حزب الشعب»، والآخر كان حزب «إيران الجديدة». كلاهما كان يلعب دورا مختلفا في المسرحية نفسها. بمعنى آخر، المحافظون في إيران اليوم أحرار طالما هم تحت ظل المرشد الأعلى، وبالتالي هم أحرار في أن ينافسوا بعضهم البعض في اطار النظام العام.
* هل يمكنهم الحفاظ على وجودهم بهذه الطريقة.. هل يمكن أن تتضارب مصالحهم يوما ما.. إنها مسرحية خطرة، أليس كذلك؟ ـ نعم.. السياسة كلها لعبة خطرة. لكن كما يعرف الجميع، هناك حدود يجب أن يلتزموا بها، وفي اطار هذه الحدود يمكن أن يلعبوا بشكل حر، وهذه الحدود يضعها المرشد الأعلى. لا مشكلة إذاً؟ (يضحك).
* ما هي علاقة الحوزة العلمية في قم بأحمدي نجاد، وهل هي أحد مصادر قوته؟
ـ أحمدي نجاد ليس مهما.. وعلى هذا الأساس ليس هناك أي تغيير في علاقة الحوزة مع الرئاسة. أحمدي نجاد ليس مهما، المهم هو المرشد الأعلى. فالوضع في قم هو كما كان عليه قبل وصول أحمدي نجاد للسلطة. ما صنعه أحمدي نجاد هو الترويج للخرافة في السياسة والثقافة الإيرانية. فقد قدم أموالا إلى مراكز تقوم بالترويج للأفكار الخرافية مثل مسجد «جانكران» في قم. فقد أشيع أن الشخص الذي يزور هذا المكان يكون مرتبطا بالامام الثاني عشر أو الإمام المهدي، ومع أن هذا الكلام ليس له أساس في الفكر الديني عند الشيعة، إلا أن البعض يؤمن بهذه الأفكار. البعض قال بعد زيارة المسجد إنه رأى الإمام المهدي في منامه أو أن الامام جاء وصلى في المسجد، وبالتالي يذهب الناس مساء كل ثلاثاء إلى مسجد «جانكران» ويصلون هناك، حتى أن زوار هذا المكان زاد عددهم على عدد زوار مقام السيدة المعصومة، (أخت الإمام الرضا). وهذه ظاهرة سلبية لأنها تعني أن الخرافة تسود مكان الدين الحقيقي. أعتقد أن دور أحمدي نجاد هو زيادة الخرافة وتقليص الفكر الديني الحقيقي.
* هل الصراع الآن بين الاصلاحيين والمحافظين يذكرك بالحال في السنوات الأولى بعد الثورة؟ ـ خلال سنوات حكمه حتى الآن أراد أحمدي نجاد أن يحي زمن الثورة، وقال شيئا مقاربا جدا لما قاله الإمام الخميني حول العودة لأصول الثورة، لكن، ولأن الزمن تغير، فقد ظهر ما قاله أحمدي نجاد مثل شئ كوميدي. فالخميني عندما قال ما قاله كان في ظرف معين وكان نفوذه بالغا، لكن بعد 30 عاما من الثورة تغير الوضع. غالبية الإيرانيين يرون أن هذه العبارات هدفها جذب أصوات الناخبين للتصويت لأحمدي نجاد لنيل ولاية ثانية في يونيو المقبل. لكن أحمدي نجاد يصدر الكثير من الجلبة، وخلف هذه الجلبة، يجب أن نعرف أن المرشد الأعلى هو الذي يدير السياسات الإيرانية. عندما يسألني الصحافيون حول أحمدى نجاد أطلب منهم أن لا يركزوا عليه، لأن كل وظيفته في الواقع هى صناعة الجلبة والضوضاء.
* لكن جلبة أحمدي نجاد تضمنت مؤخرا الهجوم على محمد خاتمي وعلى هاشمي رفسنجاني، الأول أتهم بالخيانة لأنه صافح إمراة، والثاني وصف بأنه رئيس مافيا و«مليونير الملالي».. أليست هذه الجلبة خطيرة على الاصلاحيين.. وهل كان هذا الوضع ذاته في الأعوام الأولى بعد الثورة؟ ـ أعتقد أنه في السنوات الاولي بعد الثورة لم يكن الاصلاحيين مؤثرين، بينما الآن نحن أكثر تأثيرا، ولا يمكن تكرار السنوات الأولى بعد الثورة للمرة الثانية في تاريخ إيران، وربما لهذا تتزايد الضغوط علينا.
* لكن هل صحيح أن خامنئي لا يريد عودة الاصلاحيين للحكم؟ ـ هو لا يحب الاصلاحيين، ولا يريد أن يسمح لهم بالعودة للحكم، ولديه من السلطة ما يكفي ليفعل هذا. مشكلة الاصلاحيين أن لديهم برامج عديدة، وليس لديهم برنامج واحد. إذا كان لدينا برنامج واحد لكان بإمكاننا أن نفعل الكثير. فبعض الاصلاحيين مثل خاتمي وكروبي وهاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس الخبراء، يريدون العمل في اطار المؤسسات الرسمية، والمشاركة في السلطة، ولهذا لا يقولون الكثير من الأشياء ولا يفعلون الكثير من الأشياء أيضا، ودورهم مقيد. الكثير من الإيرانيين لا يوافقون على هذه التضييقات لكن ليس لديهم من القوة ما يكفي ليفعلوا ما يريدون. في المستقبل القريب لن يستطيع الاصلاحيون في إيران فعل شئ، خصوصا في ضوء الدستور والمرشد الأعلى. الأمر كان على الحال ذاته عندما كان خاتمي في السلطة، المرشد الأعلى يسيطر على 80% من السلطة، والـ20 % الباقية في يد باقي القوى.
* هل تعتبر رفسنجاني اصلاحيا؟ ـ إنه قريب من الاصلاحيين.
* هل أصبح مقربا من الاصلاحيين لأن المحافظين دفعوه بعيدا عن حلقاتهم الضيقة.. أي انه لم يختار أن يكون اصلاحيا بل دفع دفعا لهذا المعسكر ردا على تهميشه وسط المحافظين؟ ـ هذه هي السياسة.. السيد هاشمي رفسنجاني أكبر من المرشد الأعلى لإيران بنحو 10 سنوات، اعتقد أنه أفضل من الكثير من المحافظين، وهو قريب حاليا من الاصلاحيين، ربما هو ليس اصلاحيا لكنه قريب من الاصلاحيين. السيد كروبي مثلا لم يشارك مع الاصلاحيين، وقطع وحدة الاصلاحيين في انتخابات البرلمان على عكس رفسنجاني الذي اتحد مع الاصلاحيين. هذا يعني أن الاصلاحيين في إيران غير قادرين على تعزيز قدراتهم، بسبب تفككهم، ويجب أن ننتظر بعض الوقت، لكنني لست متفائلا كثيرا بالمستقبل القريب.
* من الخارج يبدو رفسنجاني كالرجل الثاني في منظومة الحكم في إيران، فقد تولي رئاسة الجمهورية لفترتين، والآن يرأس مجلس الخبراء، وهو الهيئة التي تختار المرشد الأعلى ولها حق فصله، لكن في الحقيقة أظهرت الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة، التي خسرها رفسنجاني أمام احمدي نجاد عام 2005، ان قدرات رفسنجاني ليست بلا حدود.. هل هذا صحيح، وهل فقد رفسنجاني قدراته؟ ـ ما أعلمه، وأنا لا أعلم كل شئ وقد سمعت الكثير من الأشياء، لكنني سأقول فقط الأشياء التي أثق في صحتها. لنبدأ بالحقائق المؤكدة ومنها تزايد عائدات النفط في إيران، فقد ارتفع سعر البرميل إلى أكثر من 100 دولار بداية عام 2008، هذا جعل الحكومة الإيرانية الحالية ثرية جدا، ويعني أنها كانت أغنى حكومة تحكم إيران منذ الثورة الإيرانية عام 1979. عندما يكون لدى الحكومة كل هذا المال، فإن هذا يعني أن بإمكانها ان تفعل أي شئ. هذه هي النقطة الأولى. النقطة الثانية هي أن الاستخبارات الإيرانية قوية جدا، وهي كلها تتبع المرشد الأعلى، وكذلك الحرس الثوري (ساباه باسدران) والباسيدج (قوات التعبئة). إذاً قوات الباسدران والباسيدج والاستخبارات، اضافة إلى أموال النفط تجعل المرشد الأعلى ورجاله أقوياء. أيضا من ناحية أخرى، هؤلاء لديهم خبرة أمام الاصلاحيين. ففي زمن خاتمي، وقبله في زمن رفسنجاني، عندما كان رئيسا، أي خلال الستة عشر عاما، اكتسب السيد خامنئي خبرة كبيرة جدا، وبات اليوم يعرف كيف يتصرف حيال الاصلاحيين. وبالتالي لا أعتقد ان الاصلاحيين ضعفوا، ولكن اعتقد أن المحافظين باتوا أكثر قوة بسبب الاقتصاد والقوات العسكرية. أي إن رفسنجاني لم يضعف لكن المحافظين باتوا أكثر قوة.
* وماذا عن الحلقة الضيقة التي تحكم حاليا.. فخامنئي لا يمكن أن يحكم منفردا. فمن هم أعضاء هذه الحلقة الضيقة وهل رفسنجاني داخلها؟ ـ ليس لدى معلومات كافية حول هذه النقطة، لكنني واثق من أن أبناء خامنئي ضمن هذه الحلقة الضيقة (مجتبي خامنئي وأحمد خامنئي)، وهم أقوياء جدا. كذلك مدير مكتبه حجة الاسلام أصغر حجازي الذي كان يعمل في الاستخبارات قبل أن يعين خامنئي مرشدا أعلى لإيران وقبل ذلك كان من رجال الدين. كما ان من ضمن الحلقة الضيقة قيادات من الساباه والجيش والاستخبارات.
* هل أحمدي نجاد ضمن هذه الحلقة الضيقة؟ ـ لست واثقا. لكنني أعتقد انه ليس أكثر من منفذ أوامر بالنسبة للمرشد الأعلى.
* وماذا عن العلاقة بين رفسنجاني والمرشد الأعلى خامنئي؟ ـ ليس لدي معلومات كافية حول هذا. سمعت أشياء لكنني لست واثقا منها. كلاهما يقيم مع الآخر علاقة رسمية. يزور رفسنجاني المرشد الأعلى مرة في الأسبوع، ويظل معه نحو ساعتين، لكنني لا أعلم ماذا يبحثان.
* أليسا قريبين من بعضهما البعض الآن؟ ـ كانا صديقين قريبين من بعضهما البعض في الماضي.. لكن خامنئي هو المرشد الأعلى، كما دخلت السياسة بينهما.
* ما الذي فعلته الحركة الاصلاحية كي يكون خامنئي منزعجا منها لدرجة اقصائها من الساحة السياسية؟ ـ الاصلاحيون أرادوا أن يسيطروا على السلطة في إيران. قالوا إن السلطة يجب أن تكون مسؤولية. وكان هذا هو المبدأ الأول للاصلاحيين في إيران، السلطة يجب أن تكون مسؤولة أمام المواطنين. ونحتاج إلى مؤسسات تعكس هذه المسؤولية وتجيب على أسئلة الرأي العام. هذه المؤسسات يمكن أن تكون برلمانا قويا، وليس مثل مؤسسة البرلمان الحالية والتي هى بيد المرشد الأعلى (عن طريق تصفية المرشحين عبر مجلس الأوصياء). كان لدينا برلمان في زمن الشاه، لكن في ذلك الوقت مكتب الشاه كان يحدد من يجب أن يكون موجودا في ذلك البرلمان، وتدريجيا، كان ثلثا المجلس يحددان من قبل الشاه من دون أي منافسة حقيقية. وهذا الوضع قريب جدا للوضع الحالي. الاصلاحيون قالوا أيضا إن المرشد الأعلى يجب أن يكون مسؤولا أمام مجلس الخبراء. ومن حق مجلس الخبراء توجيه استفسارات إلى المرشد الأعلى، وعليه أن يجيب. المرشد الأعلى لا يخضع وحده للمساءلة، بل كل المؤسسات التي تتبع له. كذلك تحدث الاصلاحيون عن صحافة وتلفزيون حر لا يخضعان للرقابة. قلنا إنه في زمن الرسول والخلفاء الراشدين، كان بإلامكان انتقاد الخليفة. سيدنا عمر بن الخطاب قال للمسلمين: إذا اعوججت صححوني. ايضا في زمن سيدنا علي كان الناس تنتقده، ولم يذهب أحد للسجن. هذه أفكار الاصلاحيين. إذا الاصلاحيون خطيرون بالنسبة لخامنئي (يضحك).
* بعد الثورة كان هناك حزب حرية إيران بزعامة مهدي بازركان وإبراهيم يزدي وعزت الله سحابي وكانت لهم أفكار حول المسؤولية والمحاسبة وحرية وسائل الإعلام.. وقد تمت تنحيتهم جانبا واقصاؤهم عن الساحة السياسية، وهذا يتكرر الآن. أنتم لم تتحركوا حقيقة للأمام منذ الثورة الإيرانية قبل 30 عاما؟ ـ نعم.. أنا أؤمن بالثورة الاسلامية في إيران. وبعد 30 عاما أعتقد أنها كانت ثورة حقيقية. لكن النظام السياسي بعد الثورة، وتدريجيا ابتعد عن أهداف الثورة. في ذلك الوقت كل حزب كان لديه أعضاء في الحكومة. لم يكونوا ينتمون إلى حزب واحد أو نهج فكري واحد. الآن كل المؤسسات الحاكمة في إيران تمثل حزبا واحدا وهو تيارالمحافظين. ولأنه ليس في إيران أحزاب بالمعني الحقيقي للكلمة أفضل أن أسميها جماعة واحدة. لدينا تيارات وفصائل وسط المحافظين، وهؤلاء هم المحافظون الجدد (لاريجاني وقليباف ورضائي)، والمحافظون التقليديون (البازار) والمحافظون الراديكاليون (الحرس الثوري). لكن كلهم محافظون في النهاية. ليس هناك اصلاحيون في المؤسسات الحاكمة في إيران اليوم. الوضع كان مختلفا في زمن آية الله الخميني. مجلس الأوصياء كان بيد المحافظين، والحكومة والمؤسسة القضائية كانت بيد تيار كان يعتبر التيار الاصلاحي بمعايير اليوم، وهو التيار اليساري. اليوم ليس لدينا هذا التنوع. ربما حجة السيد خامنئي ان الاصلاحيين والمحافظين آنذاك كانوا يؤمنون بالخميني. لكن الكثير من الاصلاحيين في إيران اليوم لا يؤمنون بولاية الفقيه. وبالتالي من وجهة نظر خامنئي لا مكان لهم داخل النظام. وربما هو محق، فالجماعتان، محافظون ومعتدلون، آمنوا بالخميني. والآن الوضع مختلف.
* هل إيران اليوم وبعد 30 عاما من الثورة «جمهورية اسلامية» أم «دولة اسلامية»؟ ـ اسم «الجمهورية الاسلامية» اسم مقدس بالنسبة لنا لأنه في بداية الثورة قبل 30 عاما استخدم الخميني لأول مرة تعبير «الجمهورية الإسلامية» بدلا من «الدولة الإسلامية»، وكان ذلك مصطلحا جديدا في وقته، والفرق بين الدولة الاسلامية والجمهورية الاسلامية أن النظام الإيراني يجب أن يكون جمهوريا، بالاضافة إلي كونه اسلاميا. لكن تدريجيا، وخاصة خلال سنوات حكم أحمدي نجاد بات هو والمحافظون يستخدمون تعبير «الدولة الإسلامية»، بدلا من «الجمهورية الاسلامية» وهذا يعني أنهم يريدون أن يلغوا الجمهورية.
* هل فعلا يستخدم أحمدي نجاد تعبير الدولة الاسلامية؟ ـ نعم أحمدي نجاد يستخدم تعبير «الدولة الإسلامية» أكثر مما يستخدم تعبير «الجمهورية الإسلامية». وهذا نفس المصطلح الذي يستخدمه معلمه آية الله مصباح يزدي. مصباح يزدي قال إن «الجمهورية الاسلامية» تعبير إنتقالي في بداية الثورة قبل الوصول إلى «الدولة الاسلامية». فكما يقول يزدي، لم يكن بمقدار الخميني استخدام تعبير «الدولة الاسلامية» لأن الإيرانيين كانوا أقرب إلى الليبرالية آنذاك، وإذا استخدم الخميني تعبير «الدولة الاسلامية» فإن أغلبية الناس لم يكونوا ليقبلوا بالمصطلح، لذا استخدم تعبيرا انتقاليا وهو «الجمهورية الاسلامية». كما يقول يزدي إن المحافظين لديهم الآن ما يكفي من القوة لاستخدام التعبير الصحيح، ليس فقط كمصطلح، بل كحقيقة واقعية. وبحسب ما يرى يزدي في الدولة الاسلامية ليس هناك حاجة إلى انتخابات، فالانتخابات مصطلح غربي والمرشد الأعلى معين من الله والرئيس مصطلح غربي، وما نحتاج إليه هو مجلس إستشاري للتشاور حول القضايا الهامة، وليس برلمانا وحكم أغلبية وأقلية. هذه كلها مصطلحات غربية وليست اسلامية، كما يقول يزدي. هذه هى نظرية المحافظين، وأعتقد أنهم يريدون أن يغيروا «الجمهورية الاسلامية» إلى «دولة اسلامية». هم يعتقدون أن هناك تناقضا بين الديمقراطية والاسلام، هذا ما قاله مصباح يزدي وأحمدي نجاد. لكن السيد خامنئي يلجأ إلى تعابير أفضل من هذا، وبالتالي خرج بمصطلح «الديمقراطية الإسلامية»، و«الديمقراطية الاسلامية» تعني ما انجزوه حتى الآن. لكن «الديمقراطية الإسلامية» ليست الديمقراطية الحقيقية، «الديمقراطية الإسلامية» ليست أكثر من البيعة، وتعني أننا نحدد ونعين الشخص الجيد لهذا المنصب، وما على المواطنين سوى أن يقولوا إننا نقبل هذا التعيين. فالانتخابات في إيران الآن تعني البيعة وليس أكثر، وهي لا تعني إختيار المواطنين. في «الديمقراطية الإسلامية» أعضاء مجلس الأوصياء يقررون الشخصيات التي يعتقدون أنها مناسبة لهذه المناصب. ربما يمكن اختيار عدد أكبر كثيرا من العدد المطلوب انتخابه، لكن كلهم متشابهون مع بعضهم البعض، وعلى الناخبين الاختيار من بينهم، لكن الاختيار الأساسي تم بالفعل من قبل المرشد الأعلى، عن طريق تصفية المرشحين غير المرغوب فيهم، وهذه بيعة وليست إنتخابات. وبالتالي عندما نسمع «ديمقراطية اسلامية» فهي تعني البيعة تحت ظل ولاية الفقيه. ومن الواضح جدا أن هذه ليست ديمقراطية، لكنهم يقولون: ديمقراطيتنا أفضل من الديمقراطية الغربية. فهذا النظام في رأيهم أو البيعة يعني أن هناك جولتين من الانتخابات في إيران. الجولة الأولى: مجلس الاوصياء وهم مجموعة من رجال الدين مقربين من المرشد الأعلى يختارون المرشحين المسموح لهم بالترشح. أما الجولة الثانية فهي عندما يذهب الناس ويقبلون بهؤلاء المرشحين. فالتصويت في «الديمقراطية الإسلامية»، في تعبير السيد خامنئي، يعني قبول اختيار مجلس الأوصياء، وهذا قريب جدا من نظام البيعة وهذا هو النموذج الشيعي من الخلافة. المثقفون الاسلاميون في إيران حاولوا خلال الخمسين عاما الماضية أن يظهروا أن هناك تفسيرا جديدا للإسلام السياسي، وأن هناك توافقا بين الديمقراطية والاسلام. وهذا يعني أن الديمقراطية جاءت من الاسلام والقرآن والسنة. أنا لا اقول هذا ولا أعتقد أنه صحيح ولا أعتقد أن الديمقراطية هي الشوري. ما أقوله هو أنه يمكننا أن نحظى بنظام ديمقراطي بإحترام القيم الإسلامية، لكن كل منهما يسير بجانب الآخر، لا أن يشتق من الآخر. فليس هناك تناقض بين القيم الإسلامية وبين الدولة الإسلامية وبين النظام الديمقراطي، هذا ما أعتقده. قبل نحو 30 عاما عندما كان آية الله الخميني في باريس. جاءت صحافية من صحيفة «الفيجارو» الفرنسية سألته ما الذي تعنيه بالجمهورية الاسلامية؟ ما هي طبيعة الجمهورية الإسلامية في إيران، فقد سمعنا عن جمهوريات اسلامية في ليببا وباكستان وموريتانيا لكن أيا منهم ليست جمهورية ديمقراطية؟ فرد عليها آية الله الخميني: الجمهورية الإيرانية تماما مثل أي جمهورية اخري. فسألته الصحافية: أرجوك.. هل يمكن أن توضح أكثر؟ فرد عليها الخميني: دولة جمهورية مثل الجمهورية الفرنسية. وكان هذا الحوار منذ نحو 30 عاما، فقد كان في عام 1979.. وصدقنا ما قاله الخميني. هناك تفسيران لآيدولوجية الثورة الإيرانية. الأول: وهو الآن التفسير الرسمي للدولة وقريب جدا من تفسير المحافظين، هو نموذج «الدولة الإسلامية» وهو بعيد عن حقيقة «الجمهورية الإسلامية» والديمقراطية. أما التفسير الثاني: فهو ما يؤمن به الاصلاحيون، لكن ليس بنفس الدرجة. بعض الاصلاحيين يقول: يمكن أن نحتفظ بولاية الفقيه عبر الوسائل الديمقراطية، أي ولي فقيه منتخب. لكن الآن غالبية الاصلاحيين في إيران بدأت تدرك أن هناك تناقضا بين ولاية الفقيه والديمقراطية، باتت تعتقد أن إيران يمكن ان تظل «جمهورية اسلامية» من دون ولاية الفقيه. لكن الاصلاحيين لم يعملوا «نظريا» بما يكفي لتكريس مفهوم «الجمهورية الاسلامية».
* هل يمكن فعلا تغيير اسم الجمهورية الاسلامية؟ ومن يدفع في هذا الاتجاه؟ ـ أعتقد أنه اجمالا سيتم الحفاظ على اسم «الجمهورية الاسلامية» لكن مع تغيير طبيعة النظام. وسيكون الأمر بسيطا جدا، أي لدينا الاسم من دون أن يكون لدينا واقع الجمهورية. وهذا التغيير تقوده القوى الدينية التقليدية والمحافظون.
* ما الفرق بين القوي الدينية التقليدية والمحافظين في إيران؟ ـ هما قريبان من بعضهما البعض. التقليديون (سنتي) من جهة هو «تعبير ديني». والمحافظون (محافظة كار) من جهة أخري «تعبير سياسي». عندما نقول «القوي التقليدية» في إيران تتجه الأفكار إلى رجال الدين وإلى الاشخاص المتدينين والبازار التقليدي. هؤلاء الأشخاص محافظون بالمعني السياسي ويريدون الحفاظ على الأمر الواقع، وهم قريبون من الأفكار المحافظة في الاقتصاد، ويعارضون أي اصلاحات سواء سياسية أو ثقافية ويخافون من الحريات الثقافية والسياسية. غير المتعلمين في إيران يميلون إلى دعم المحافظين والتقليديين، أما الذين تلقوا تعليما جامعيا فهم أقرب إلى الاصلاحيين. في قم مثلا المحافظون والتقلديون أكثرية. في طهران المحافظون والتقليديون ضعفاء أكثر مما هم ضعفاء في أي مدينة إيرانية أخرى. بين طلبة الجامعات الإيرانية المحافظون ليسوا أكثرية. لكن السلطات تفسد البنية الطبيعية للجامعات وذلك بتسهيل دخول قوات الباسيدج للجامعة بأعداد كبيرة، وكذلك بتغيير أساتذة الجامعات.
* كيف غيرت سنوات حكم أحمدي نجاد إيران؟ ـ أهم تغيير هو نزع تسيس الشارع الإيراني، فمقدار اهتمام الناس بالسياسة قل كثيرا. لكن هذا ليس في صالح المحافظين، فإيران دولة صغيرة السن، مشاركة الناس وانخراطهم السياسي كان جيدا، لكن الآن وتدريجيا صار الإيرانيون يبتعدون عن السياسة لأنهم إذا قالوا ما يعتقدون فإنهم يمكن أن يدخلوا السجن مثلا. هذا ليس وقتا جيدا لطلبة الجامعات في إيران. هذا وقت جيد للمساجد. (يضحك). حتى هذا ليس وقت جيد للمساجد، فخلال أوقات الصلاة تجد الكثير من المساجد الإيرانية خالية وليست ممتلئة. إنهم يستغلون المساجد للأغراض السياسية وليس للأغراض الدينية. يمكنك أن تذهب إلى أي مسجد خلال صلاة الظهر، ستجد نحو 20 أو 30 شخصا يصلون، والكثير من المساجد الإيرانية الآن لا تقيم صلاة الفجر، وخلال صلاة الظهر، ربما نصف المساجد فقط تقيم الصلاة، فيما عدا ذلك يذهب الناس للصلاة بشكل فردي وليس صلاة الجماعة. المحافظون عززوا من استغلال المساجد في الأغراض السياسية. فخلال عاشوراء أو غير ذلك من الاحتفالات الدينية يستغلون المساجد من أجل أهدافهم السياسية. الأمر ليس جيدا.
* هل تعتقد أن فكرة تصدير الثورة ما زالت قائمة في إيران الآن؟ ـ بعض الأشخاص ربما يحبون هذا. من الطبيعي أن هؤلاء الاشخاص يقيمون علاقات مع أشخاص مثلهم في بلاد أخرى. عندما يقوم الأميركيون بمد نفوذهم في العراق أو افغانستان، فإن من الطبيعي أن يقوم المحافظون الايرانيون بالشئ ذاته. في السياسة أي شخص يمكن أن يقوم بهذا النوع من الأفعال. بوش كان يقوم بتصدير الديمقراطية باسمه. * هل تعتقد أن إيران أقوى الآن مما كانت عليه قبل 5 سنوات؟ فأحمدي نجاد دائما ما يشدد على الانتصارات التي تحققها إيران اقليميا وفيما يتعلق بالبرنامج النووي؟ ـ الطاقة النووية ليست شيئا جديدا في إيران. فمشروعات الطاقة النووية بدأت في السنوات الأولى بعد الثورة. خلال سنوات أحمدي نجاد سمعنا كثيرا عن الطاقة النووية، لكن هذا لا يعني أن المشروع النووي وليد هذه الأيام. في زمن هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي كان لدينا برنامج نووي. بدأنا هذا قبل 20 عاما، وهذا ليس شيئا جديدا. بل إن البرنامج النووي بدأ خلال زمن الشاه. هذا ليس انجاز أحمدي نجاد، هذه انجازات 3 رؤساء سابقين، وجني الثمار جاء في زمن رئاسته. أعتقد مثل الكثير من الإيرانيين أن إيران يمكن أن تكون لديها طاقة نووية سلمية. حساسية الغرب ضد إيران حساسية سياسية. يشعرون أن إيران إذا حصلت على هذه القوة فإنها ستكون قادرة على تهديد إسرائيل وليس أكثر. رأي المجتمع الدولي والرأي العام العالمي حول إيران كان أفضل قبل السنوات الخمس الأخيرة. أحمدي نجاد أظهر للعالم صورة شرسة عن إيران، صورة غير عقلانية، فيما خاتمي أظهر صورة عقلانية متسامحة ناعمة. أعتقد أن حقيقة إيران أقرب إلى صورة خاتمي وليس إلى صورة أحمدي نجاد. الآن عندما يقال إيران تتقمص صورة أحمدي نجاد أو يعتقد البعض ان أحمدي نجاد هو إيران، هذا ليس صحيحا.
يقولون إن الثورة تأكل أبناءها.. هذا حدث لي
* يعمل محسن كديور، الذي يعد من أبرز الوجوه الإصلاحية في إيران، في التدريس الجامعي، كما أنه المدير المسؤول عن لجنة حماية الصحافيين في إيران، وهى لجنة غير حكومية أسست لحماية حريات الصحافة، إلا أن المفارقة أنه يتعرض بدوره للتضييقات. ويقول كديور لـ«الشرق الأوسط»: «أردت أن أقدم العام الماضي ورقة بحثية في قم حول حقوق الإنسان والإسلام. لكن قالت لي بعض الشخصيات من قم إنه من الأفضل لي عدم الذهاب إلى هناك. بعد ذلك سمعت أن جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم (وهى جماعة محافظة) ذهبت إلى آية الله اردبيلي، أحد آيات الله النافذين في الحوزة، وقالت له: هذه الورقة يجب ألا تقدم أو تنشر في قم. بعد ذلك خرجت 3 أو 4 مقالات ضد ملخص ورقتي وتضمنت أنني كتبت ضد الإسلام، مما سبب لى أجواء غير مريحة، ثم منعت من العمل في الجامعات. والآن أعمل في المعهد الإيراني للفلسفة وهو ليس جامعة. لقد دفعوا الكثير من الأساتذة الإيرانيين للتقاعد من عملهم مثل محمد شبستري وعبد الكريم سروش واشيليه وهو عالم إيراني شهير في العلوم السياسية. نحو 50 أستاذا جامعيا أجبروا على التقاعد. لكن أنا سني صغير على التقاعد، كما أنهم لا يملكون ما يكفي من الأدلة ضدي لإجباري على التقاعد، فقاموا بتجميع ملف قضائي ضدي. أنا الآن في برزخ (يضحك). لقد درست 16 عاما في الجامعة، و14 عاما في قم. والآن عملي مقيد. المعهد الفلسفي الذي أعمل فيه الآن كان من قبل المعهد الملكي للفلسفة في عهد الشاه. أى أنه تم نقلي من (جامعة ثورية) وهى كلية التربية التي كانت أول كلية يتم إنشاؤها بعد الثورة الإيرانية، إلى المعهد الملكي للفلسفة. هذا تطور سيئ بالنسبة للثورة. هذا يعنى، كما يقولون، أن الثورة تأكل أبنائها.. هذا حدث لى. الصحف التي كانت تنشر مقالاتي مثل «افتاب» و«المدرسة»، وهى دورية بحثية و«كيان» كلها أغلقت. كل ما أملكه الآن هو موقعي الإلكتروني، ولو نشطته قليلا، فسوف يتم التضييق عليه. وبالتالي لا أنشط فيه كثيرا، هو أشبه بمكتبة أضع فيها كتاباتي ودراساتي ليطلع عليها تلاميذي». وسط انشغاله الأكاديمي والصحافي، ألف كديور كتاب «نظريات الحكم في الفقه الشيعي»، تناول فيه أهم النظريات الفقهية لدى الشيعة حول ولاية الفقيه. وفي كتابه «نظريات الحكم في الفقه الشيعي» حدد كديور أهم النظريات التي وردت في كتب آيات الله الكبار على مر العصور، حول نظريات الحكم. ووفقا لقراءة كديور، فإن هذه النظريات يمكن تلخصيها في 9 نظريات، كلها تدور حول سؤال أساسي: هل ولاية الفقيه جزء من الدين؟ هل ولاية الفقيه مقيدة أم مطلقة؟ من يقيدها، المراجع الدينية أم الشعب؟ وملخص النظريات التسع هو:
 1ـ نظام السلطنة المشروطة. وهو يعني وجود مجلس من المراجع الدينية العليا يفتي في شؤون الشريعة، في إطار نظام سلطاني يتمتع فيه الولي بسلطات واسعة، ومن آيات الله الذين يؤيدون تلك النظرية آية الله محمد باقر مجلسي، وآية الله ميرزاي قمي، والشيخ فضل الله نوري، وآية الله عبد الكريم حائري يزدي (مؤسس الحوزة العلمية في النجف في عشرينات القرن العشرين).
 2 ـ الولي معين من الشعب، والشعب هو ميزان الحكم. ومن المؤيدين لهذه النظرية الملا أحمد نراقي، والسيد محمد حسن نجفي (صاحب كتاب الجواهر، أشهر كتاب في الفقه الشيعي)، وآية الله بروجردي، وآية الله الخميني (قبل الثورة الإيرانية).
3 ـ نظرية «مجلس فقهي» من 3 أو 4 من كبار آيات الله تحكم بدلا من شخص واحد. وتقوم المراجع الدينية باختيار مجلس الحكم هذا. ومن آيات الله الذين يدعمون هذه النظرية آية الله جواد آملي، وآية الله بهشتي، وآية الله طاهر خرام آبادى.
 4 ـ نظرية الولاية المطلقة للفقيه، أو الولاية غير المقيدة بأية شروط، على أساس أن الولي ممثل الله في الأرض، وسلطاته تماثل سلطات النبي. ومن المؤيدين لهذه النظرية آية الله الخميني (بعد الثورة الإيرانية).
 5 ـ نظرية الدولة الدستورية، وهي تعني أن الولاية للناس، لكن تحت إشراف رسمي من المراجع الدينية. (مثل إشراف مؤسسات كمجلس صيانة الدستور في إيران على «إسلامية» القوانين التي يقرها البرلمان الإيراني). ومن المؤيدين لهذه النظرية آية الله نائيني وآية الله منتظري، وآية الله طاهراني، وآية الله خورساني وآية الله طباطبائي والشيخ إسماعيل محلاتي.
6 ـ نظرية الحكومة المنتخبة مع إشراف المراجع الدينية من دون أن يكون لهم دور رسمي. ومن آيات الله المؤيدين لهذه النظرية آية الله محمد باقر الصدر.
7 ـ نظرية الولاية المشروطة للفقيه، وهي تعني أن يكون الولي الفقيه محاسبا من قبل الشعب، وسلطاته مقيدة. ومن مؤيديها آية الله منتظري، وآيه الله مطهراني.
 8 ـ نظرية الحكومة المنتخبة، من دون أن يكون هناك أي دور للفقيه أو للمراجع الدينية. ولكنها تعد دولة اسلامية لأن الناس مسلمون. ومن مؤيديها آية الله محمد باقر الصدر.
 9 ـ نظرية الولاية لكل الناس وللجميع حق في الحكم. وهنا ليس هناك أي دور للولي الفقيه. ومن مؤيديها آية الله محمد حائري يزدي. ما خرج به كديور من وسط كل هذه النظريات هو أنها تطورت في سياقات زمنية مختلفة، وأن الزمن هو معيار الحكم وليس النظريات الثابتة. وكان كديور، الذي ولد في شيراز في 7 يونيو (حزيران) 1959، ودخل الجامعة لدراسة الهندسة الكهربائية في جامعة شيراز 1977 وخلال دراسته أصبح ناشطا سياسيا، أول مثقف إيراني يعتقل خلال حملة الاعتقالات التي طالت المثقفين والطلبة والصحافيين 1999 على خلفية المظاهرات التي عمت إيران بسبب التضييق على الإصلاحيين، وحكم ساعتها على كديور، 47 عاما، بالسجن 18 شهرا في سجن ايفين، ثم أفرج عنه في 17 يوليو (تموز) 2000.
 
الحلقة (7) ـ خفوت صوت الإصلاحيين.. إيران ثاني بلد بعد الصين في المدونات الالكترونية.. و28 مليون مستخدم للإنترنت
عندما زار وزير الإرشاد والثقافة الإيراني صفار هرندي سورية نهاية العام الماضي شكا لنظيره السوري محسن بلال من عدم اهتمام سورية بدبلجة المسلسلات الإيرانية باللغة العربية وعرضها وبيعها في الأسواق العربية، كما تفعل سورية مع المسلسلات التركية. قال هرندي ساعتها إن المسلسلات التركية المدبلجة بالعربية ساهمت في أن يعرف العالم العربي المزيد عن تركيا، وأن الشيء نفسه يجب أن يحدث مع إيران. فهناك رغبة إيرانية في أن يعرف العالم عن إيران أكثر.. لكن بعيون إيرانية وعبر وسائل وأدوات إيرانية. وبالتالي لا غرابة في أن يكون من ضمن أهم المشروعات الإيرانية في اميركا اللاتينية إنشاء قناة تبث باللغتين البرتغالية والاسبانية بعضا من محتوى قناة «برس تى في» التي تبث بالانجليزية. لكن بالرغم من الاهتمام الإيراني الملحوظ في السنوات الأخيرة بالتوسع اعلاميا في الخارج، فإن الداخل شهد تضييقا اعلاميا، يقول الصحافيون الإيرانيون إنه يشتد مع قرب الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقررة في يونيو (حزيران) المقبل. وليس من السهل أن تعمل صحافيا في إيران. فالصحافيون عادة يقعون بين ضغطين. ضغط الشارع الذي يريد قيودا أقل على الأخبار وضغط وزارة الارشاد والثقافة التي تريد قيودا أكبر على الأخبار، وإذا اضفت الى ذلك تناقص معدلات القراءة وتراجع نسبة التوزيع ونسبة الاعلانات وصعوبة شراء الورق وتوجه أكثر من 50% من الإيرانيين للانترنت للتزود بالأخبار.. فستشعر إذا كنت صحافيا في إيران ان هذا وقت صعب. يقول ما شاء الله شمس الواعظين الصحافي ومدير المركز الإيراني لدراسات الشرق الأوسط: «هذه المرحلة أسوأ مرحلة نمر بها من ناحية وضع الصحف والاعلام. لا توجد في هذه المرحلة صحافة حرة ومستقلة، توجد هناك بعض التيارات وصحافة تنطق باسمها، لكن منضبطة جدا، ومراقبة جدا من قبل وزارة الارشاد والثقافة وحكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد، والمجلس الاعلى للامن القومي الذي يطلق بين الحين والآخر الكثير من التعليمات للإعلام. مثلا يحدد الطريقة التي يجب ان تعالج بها الصحف الإيرانية الملف النووي والسياسة الخارجية: اكتبوا هذا.. ولا تكتبوا ذلك. هناك 530 عنوان صحيفة ومجلة ودورية تنشر في إيران في هذه المرحلة، لكن معدل القراءة لكل مواطن إيراني قليل جدا. فكل 64 مواطنا إيرانيا يقرأون نسخة واحدة يوميا. وهذا رقم قياسي متدن جدا من ناحية المعايير الدولية. لكن مرحلة ربيع الديمقراطية، إذا صح التعبير، كانت في عهد الرئيس محمد خاتمي. هذه المرحلة وكنت أنا نشطا فيها أيضا، تم مصادرة 5 صحف كنت أكتب فيها، كما سجنت 3 مرات في عهد الرئيس خاتمي ومنعت من العمل الصحافي حتى اشعار آخر. الإعلام في إيران موجه، لكن يوجد هناك هامش من الحرية ايضا لبعض من التيارات التي يقودها رجالات الثورة مثل مهدي كروبي، رئيس حزب اعتماد ملي، وبعض الشخصيات الأخرى». وبسبب التضييق على الصحافة المطبوعة فإن المجتمع الإيراني شهد نقلة نوعية في استخدام الانترنت والاعتماد على المدونات الالكترونية لنقل الاخبار، واليوم هناك في إيران 28 مليون مستخدم للانترنت. ويوضح شمس الواعظين لـ«الشرق الأوسط»: «إيران البلد الأول، طبعا بعد الصين، في المدونات الالكترونية، ويب بلوغ، وهذا شيء غريب، فالصين مليار و200 مليون وإيران 80 مليونا فقط. نحن إذن الدولة الأولي بعد الصين، بالرغم من التباين الكبير في عدد السكان. من ناحية الصحافة الالكترونية هناك ازدياد مطرد بسبب وجود تضييقات على الصحافة المطبوعة. أما الصحافة المرئية والمسموعة فكلها محتكرة من السلطات، فليس في إيران تلفزيون أو اذاعة مستقلة او تابعة للقطاع الخاص. لكن لكي أكون أكثر انصافا في حكمي على الوضع الصحافي في إيران، عندما اتحدث عن الاعلام ومعاييره، أتحدث مستندا الى المعايير الدولية في الاعلام الحر، بدون التطرق الى المقارنة بين المجتمع الإيراني والمجتمعات الاسلامية. فاذا قارنا ايران مع باقي الدول الاسلامية سيكون لدينا هامش حرية أكثر بكثير من الهامش المتاح لغيرنا من دول المنطقة. لكن اذا قارنا وضعنا بالمعايير الدولية سيكون وضعنا سيئا». وتؤكد وزارة الارشاد والثقافة الإيرانية أنه يوجد اليوم 30 صحيفة يومية في إيران، غالبيتها تنتمي للمحافظين، وأن الصحف ذات التوزيع المرتفع كلها صحف رياضية. فمتوسط توزيع الصحف الرياضية اليومية مليوني نسخة، ترتفع الى 4 ملايين نسخة بعد المباريات الهامة، وذلك على العكس من التوجه العام منتصف التسعينات، عندما كانت صحف إصلاحية مثل «شرق» توزع نحو مليون نسخة في اليوم. ويقول محسن كديور مدير لجنة حماية الصحافيين في إيران لـ«الشرق الأوسط» إن الصحف الإصلاحية التي كان عددها يبلغ 20 صحيفة قبل نحو 8 أعوام، تقلصت تدريجيا حتى باتت إيران تخلو كليا من صحيفة اصلاحية كبيرة، موضحا: «تدريجيا تدهورت حالة حرية الصحافة في إيران. الان ليس لدى الإصلاحيين صحافة حقيقية. هناك 3 صحف يومية تعتبر قريبة من الاصلاحيين وليست اصلاحية. وعندما أقول صحيفة أعني مطبوعة توزع على الاقل 10 آلاف نسخة في اليوم. فهناك بعض الصحف توزيعها مثلا 5 آلاف أو حتى الفين، وأنا لا أسمي هذه صحفا. من ضمن الصحف التي توزع ما لا يقل عن 10 آلاف نسخة في اليوم، هناك 3 صحف فقط تعتبر قريبة من الاصلاحيين، احدها هى (اعتماد ملي) التي يصدرها السيد مهدي كروبي باسم حزبه السياسي (اعتماد ملي). والثانية هى (كاركوزران) او كوادر البناء وهي تابعة لهاشمي رفسنجاني ورئيس تحريرها حسين كرباستشي، عمدة طهران الأسبق. والثالثة هى «اعتماد» ويديرها احد الاصلاحيين. (اعتماد) ربما هى الأكثر راديكالية بين هذه الصحف الثلاث، أي أنها تعبر بطريقة أفضل عن مزاج الاصلاحيين. كل من هذه الصحف توزع نحو 50 الفا نسخة في اليوم. في الفترة الذهبية للاصلاحيين كانت صحيفة «شرق» التي يرأسها سعيد حجاريان توزع نحو مليون نسخة في اليوم. اليوم أكثر الصحف الاصلاحية انتشارا لا توزع أكثر من 50 الف في اليوم. في العصر الذهبي للاصلاحيين كان لدينا 20 صحيفة في اليوم، اثنتان منهما كانتا توزعان في المتوسط مليون نسخة في اليوم. والباقي يوزع نحو 50 الف في المتوسط. ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن الإيرانيين اليوم لا يقرأون الصحف. وبعضهم، مثلنا، يستخدمون الانترنت. لكن هناك الكثير من التضييقات على الانترنت في المنازل. فكل يوم يتم فلترة المواقع التي يمكن فتحها. أما وكالات الانباء التي يمكن عن طريقها الحصول على المعلومات، فقد أغلقوا المستقل منها مثل «إلينا» وهى وكالة الأنباء العمالية. أما وكالة أنباء «أسنا» التي كانت قريبة من الاصلاحيين، فقد غيروا مديرها العام». أهم الصحف اليومية في إيران
* كيهان: تأسست عام 1941 وهى محافظة، قريبة من مركز صنع القرار ويعين رئيس تحريرها المرشد الاعلى لإيران. وتوزيعها 350 الف نسخة في اليوم.
*جمهوري إسلامي: تتبع مباشرة لآية الله خامنئي بوصفه المرشد الاعلى لإيران. وهى أول صحيفة يؤسسها المحيطون بآية الله الخميني بعد نجاح الثورة عام 1979 لتكون المتحدث باسم السلطة الجديد. وأرقام توزيعها غير معروفة.
* طهران تايمز: تتبع لمؤسسة «الانتشار الإسلامي» وهى إحدى المؤسسات التي تتبع مكتب المرشد الاعلى. أسست «طهران تايمز» عام 1979 لتكون اول صحيفة إيرانية يومية ناطقة بالانجليزية بعد الثورة. وبالرغم من أن روؤساء تحريرها دائما من المحافظين، فإنها تقدم الأخبار بطريقة مباشرة، ولا تستخدم عادة التعبيرات التي تستخدم في الصحف الإيرانية الناطقة بالفارسية، مثل وصف إسرائيل بـ«الشيطان الأصغر» مثلا. توزيعها نحو 15 الف نسخة في اليوم.
* رسالت: تأسست عام 1985، وهى تعكس وجهات نظر المحافظين. وتوزيعها 100 الف نسخة في اليوم.
* جامي جام: الصحيفة الرسمية لهيئة الاذاعة والتلفزيون الإيرانية، التي يرأسها المرشد الاعلى آية الله على خامنئي. وتوزيعها نحو 460 ألف نسخة.
* سياست روز: تعكس وجهات نظر الجيل الشاب وسط المحافظين الإيرانيين. وارقام توزيعها غير محددة
* إيران: هى الصحيفة الرسمية لوكالة الانباء الإيرانية (ارنا) وهى مثل (ارنا) تعكس وجهات النظر الحكومية. وتوزيعها غير معروف.
* افتاب يزد: تأسست عام 2000، وهى تعكس وجهات نظر الاصلاحيين، ومقربة من الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي وتوزيعها 100 الف نسخة في اليوم.
* اعتماد: محسوبة على التيار المعتدل وسط الاصلاحيين بسبب ميولها الوسطية. وتوزيعها غير معروف.
* اعتماد ملي: تصدر عن حزب «اعتماد ملى» المحسوب على الاصلاحيين الذي يرأسه مهدي كروبي، رئيس البرلمان خلال ولاية محمد خاتمي. وتوزيعها غير معروف.
* همشهري: معتدلة، تتبع لرئاسة بلدية طهران. وتركز على أخبار العاصمة طهران وعلى الاخبار الداخلية الإيرانية. وتوزيعها نحو 50 الف نسخة.
* اطلاعات: تأسست خلال عهد الشاه، وهى الصحيفة الوحيدة التي تطبع خارج إيران. وأرقام توزيعها غير معروفة
* الوفاق: تصدر باللغة العربية عن وكالة الانباء الإيرانية (ارنا) وتوزيعها غير معروف. أما وكالات الأنباء في إيران، فهي بالاضافة الى ارنا، وكالة الأنباء الطلابية «أسنا» ووكالة الأنباء العمالية، ووكالة أنباء فارس ووكالة أنباء مهر، وكلها على صلة بطريقة أو بأخرى بالمؤسسات العسكرية أو التنفيذية في إيران. غدا: معنى تصدير الثورة
 
الحلقة (8) ـ شريعتمداري: الثورة الإيرانية لم تكن حية أكثر من اليوم
شريعتمداري لـ«الشرق الأوسط»: الثورة الإيرانية لم تكن حية أكثر من اليوم.. ولم يكن تصديرها أقوى
يشعر حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة «كيهان» الإيرانية اليومية النافذة بالارتياح، فعام 2008 كان عاما جيدا لإيران، وبالتالي فإن الذكرى الثلاثين للثورة الإيرانية التي يحتفل بها الإيرانيون في فبراير (شباط) الجاري تأتي ومعها «علامات الانتصار» الإيراني. يقول شريعتمداري في حوار مع «الشرق الأوسط»: «عندما قامت الثورة كنا وحدنا. اليوم نحن لسنا وحدنا، معنا أصدقاء من كل مكان. الثورة الإيرانية لم تكن حية أكثر من اليوم، ولم يكن تصديرها أقوى. المقاومة تنتصر في كل مكان.. الحمد الله الحرب على حماس استمرت 22 يوما، والحرب على حزب الله استمرت 33 يوما. الحرب القادمة ستكون 11 يوما، والتي بعدها ستكون يوما واحدا»، يقول شريعتمداري ضاحكا مشيرا إلى «الصمود الباسل للمقاومة» أمام اسرائيل. وإذا كان مجلس الأمن القومي الإيراني مشغولا بتنفيذ استراتيجية إيران الدفاعية والتي وضعها المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي بجعل إيران القوة الأولى في المنطقة بحلول 2015، فإن شريعتمداري يشعر بأن بعض ثمار هذه الاستراتيجية بدأ يؤتي ثماره، إذ لا يمكن الحديث عن حل الأزمات في الشرق الأوسط، من العراق إلى أفغانستان، مرورا بالموضوع الفلسطيني من دون العروج على إيران. ولحسين شريعتمداري نوعان من الأعداء يخشى منهما على إيران، الأعداء الخارجيون مثل أميركا والغرب الذين يريدون إخضاع إيران، كما يرى. والأعداء الداخليون الذين يحملون نفس وجهات النظر مع الغرب. وهؤلاء يسميهم شريعتمداري «إصلاحيين على الطراز الغربي».
ويوضح شريعتمداري: لقد ضحينا كثيرا من أجل هذه الثورة، ضحينا كثيرا في إيران من أجل أن نتحرر من الطغيان الأميركي. اليوم أميركا لا تريد الحوار معنا من دون شروط، بل بشروطها وهي شروط تهدف إلى كسرنا. «الشرق الأوسط» تحدثت إلى شريعتمداري حول إيران بعد 30 عاما من الثورة. وهنا نص الحوار:
* كيف هي إيران بعد ثلاثين عاما من الثورة؟
- الثورة حية في إيران اليوم وبعد ثلاثين عاما على قيامها، أكثر مما كانت حية في أي وقت آخر خلال الثلاثين عاما الماضية. الثورة وأفكارها تصدر لبلاد إسلامية أخرى. بينما في العام الأول بعد الثورة كنا وحدنا، لم يكن معنا أو حولنا الكثير من الحلفاء والأصدقاء الذين يؤمنون معنا بنفس الأفكار. هذا الوضع مختلف الآن. نحن لسنا وحدنا، معنا دول كثيرة حول العالم، يمكن رؤية هذا في لبنان وفلسطين وتركيا وكل العالم الإسلامي، وحتى دول غير إسلامية تميل للثورة الإسلامية في إيران وتردد شعاراتها وأفكارها. في الجانب الآخر، بعد ثلاثين عاما من الثورة، نحن القوة الأولى في المنطقة عسكريا وتكنولوجيا، في مجالات العلوم والطب والتكنولوجيا النووية.
* لماذا تقول إن الثورة اليوم حية أكثر من أي وقت مضى؟
- لأنه برغم كل المؤامرات علينا لإضعافنا، فشل الذين يريدون القضاء على ثورتنا. الإيرانيون يعرفون أن أميركا تكن عداء شديدا لإيران، ويعرفون أن عداوة أميركا لم تتوقف طوال ثلاثين عاما. من عقوبات إلى خطط ومؤامرات لإضعافنا. واليوم ما زالت أميركا تقف نفس موقفها من برنامجنا النووي، كل هذا يثبت أن أميركا تريد أن توقف تقدم إيران. لكن هذا لن يحدث. انظروا إلى موقف أميركا من حزب الله وحماس، تواطؤ أميركا في الحرب عليهما لضرب المقاومة، لكن الحمد الله الحرب على حماس استمرت 22 يوما ثم اضطرت القوى الصهيونية إلى الانسحاب، أما الحرب على حزب الله فاستمرت 33 يوما وانتصرت المقاومة.. فهل بعد ذلك ستكون الحرب 11 يوما، ثم الحرب التالية يوما واحدا؟ (يضحك).. عندما تصمد المقاومة الاسلامية، فهذا دليل على أن الثورة حية وعلى أن خطط أميركا وإسرائيل تفشل. لهذا أقول إن الثورة في أقوى حالاتها وحية أكثر من أي وقت مضى. وتصديرها أقوى من أي وقت مضى.
* عندما تتكلم عن تصدير الثورة اليوم.. ما الذي تقصده؟
- الحدود الجغرافية لا يمكن أن تمنع نشر الأفكار. عندما ترى الدول الأخرى المحيطة بنا أو حول العالم أن إيران لديها استقلالها وحريتها وسيادتها، وأنه بعد ثلاثين عاما من الحرب والتخريب لم تتمكن أميركا من تدميرها، يلهم هذا الآخرين. إيران نموذج ملهم في السيادة والوقوف أمام الاستكبار والجبروت. السيد ياسر عرفات رحمه الله عندما ذهب إلى الأمم المتحدة وبيده غصن زيتون وبيده الاخرى سلاح مقاومة، وخطب أمام الأمم المتحدة حول حقوق الشعب الفلسطيني، قال سيناتور أميركي عندما رأى فرع الزيتون في يد وسلاح فارغ من الطلقات في اليد الأخرى: ماذا يمكن أن يحققا؟ بعد الثورة الإسلامية في إيران ومقاومة حزب الله والانتفاضة والمقاومة في فلسطين والآن موقف تركيا.. كل شيء يتغير، فالحدود الجغرافية لا تمنع نشر أفكار المقاومة. أشياء كثيرة تغيرت في المنطقة منذ نجاح الثورة الإسلامية قبل ثلاثين عاما.
* هناك من يقول إن الثورة ولدت وبداخلها الكثير من الخلافات بين الأجنحة العديدة التي قادتها. وأن هذه الخلافات ما زالت موجودة داخل إيران، وبالتالي ليست الثورة في أحسن حالاتها؟
- أنا لا أريد استخدام كلمة أجنحة. ولا أعتقد أن هناك اليوم خلافات بين الذين شاركوا في الثورة حول تأييد الثورة. خلال الثورة كانت هناك تيارات وعناصر موجودة. لكن عندما ننظر لا نجد أن الكل شاركوا بنفس الدرجة، بل هناك تيارات وأشخاص لم تفعل حقيقة أي شيء، هناك تيارات وأشخاص شاركت، ثم انفصلت عن الثورة ومسارها. إذا أردنا أن نقسم هؤلاء اليوم فسنجد أنهم ينقسمون إلى محافظين، وأنا أفضل تسميتهم مبدئيين، وهناك الإصلاحيون. وهذان التياران قد يختلفان في الكثير من القضايا، إلا أنهما لم يتصارعا أو يتنافسا خلال الثورة أو قبلها. لكن بعد الثورة تغيرت وجهات النظر في إدارة الدولة. ومن هنا حدث التباعد. لكن هؤلاء ليسوا ضد الثورة، فعندما نحتفل بذكرى الثورة، نحتفل معا وجنبا إلى جنب.
* تتحدث عن الإصلاحيين.. البعض يقول إن مستوى الحريات قبل الثورة كان أفضل مقارنة باليوم، وأن الإصلاحيين يتعرضون لضغوط؟
- هذا ليس صحيحا أبدا. الرد على هذا يكون بالوقائع. في عهد الشاه لم تكن هناك أي حريات سياسية أو فكرية، كانت السجون مليئة بالسياسيين. كانت هناك تباينات في الوضع الاقتصادي والاجتماعي. بعد الثورة تغير كل هذا. هناك انتخابات بلدية وبرلمانية ورئاسية. هناك تحركات اجتماعية نشطة، الصحف تكتب ما تريد. الرد بالوقائع.
* هل خدم الرئيس الأميركي جورج بوش إيران طوال 8 سنوات من حكمه من دون أن يتعمد؟
- ردي سيكون باستعارة حديث للإمام زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنه وهو: «الحمد الله الذي جعل أعداءنا من الحمقى».
* البعض يتهم إيران بأنها تسبب توترات، فمثلا في الملف النووي يريد الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما حوارا، فيما تضع إيران شروطا لهذا الحوار مثل اعتذار مسبق عن جرائم بحق إيران؟
- لا أعتقد أن أوباما سيحدث أي تغيير. فحتى الآن ليس هناك أي تغيير حقيقي في السياسات. باراك أوباما يعبر عن وجهات النظر التي عبر عنها من قبله بوش. اوباما قريب جدا من منظمة «ايباك» اليهودية ولديه مساعدون موالون لإسرائيل. إذا كان يعني تغييرا فيجب أن نرى هذا في مواقفه. بعد الحرب الصهيونية على غزة تظاهر الناس في العالم كله تأييدا للفلسطيينين وخرج زعماء حول العالم ينددون بهجمات الصهاينة، لكن أوباما لم يقل أي شيء ضد إسرائيل والمذابح التي ارتكبتها. فكيف نكون راضين عنه؟ في اليوم الأول لانتخاب أوباما كتبنا في صحيفة «كيهان» عنوانا «صقر في ثياب حمامة». لابد من تغيير جوهري في طريقة التفكير والبنية الأميركية. اوباما مجرد تغيير فرعي. لإقامة أي علاقات بين أميركا وإيران لابد لواحد منا من ان يغير مبادئه وأفكاره. إيران لن تفعل هذا. يجب على أميركا أن تتغير وأن ترى العلاقات الدولية في ضوء مختلف. كما قال الإمام الخميني ليس في ضوء علاقات الاستكبار الدولي.
* هل تعتقد أن الرئيس محمود أحمدي نجاد سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
- لأحمدي نجاد إنجازات كثيرة، أهمها أنه أعاد الثورة إلى أيامها الأولى، ومبادئها الأولى. وأعتقد أنه سينتخب لولاية ثانية. الطريقة التي تعامل بها مع تهديدات الغرب لنا بسبب برنامجنا النووي أظهرت أنه كان على حق. مشكلة الغرب أنه يتعامل مع إيران من منطق القوة. لكن هذه اللغة فات أوانها. نحن أمام عالم لا يمكن فيه لقوى أن تفرض هيمنتها وإرادتها على باقي دول العالم، هناك عالم جديد يتشكل.
إيران: 30 عاما على الثورة الحلقة (8) ـ إيران الخائفة.. والمخيفة.... ذهب عباس الموسوي إلى الخميني بعد هجوم إسرائيل 1982 وسأله: ما العمل.. فرد الخميني: ابدأوا من الصفر
للدول تركيبات نفسية مثل الأشخاص. هذه التركيبات تتغير بتغير الظروف والأحوال. فأحياناً تكون الدول في «مزاج جيد» وأحياناً في «مزاج عابس». أحياناً تشعر بـ«القوة والانفتاح» وأحياناً أخرى تشعر بـ«الضعف والعزلة». إيران ليست استثناءً من هذه القاعدة. فقبل وبعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 بأشهر عملت إيران على مد أواصر العلاقات مع دول عربية من بينها سورية ولبنان والجزائر والمنظمات الفلسطينية وليبيا، وتوقعت «دولة الثورة» في إيران أن تكون علاقاتها جيدة مع دول المنطقة، مستفيدة بشكل خاص من إعلان شاه إيران إقامة علاقات مع إسرائيل والاستياء الإسلامي آنذاك من الخطوة، وسعي الدولة الإيرانية الجديدة لإزالة تهمة «العنصرية الفارسية» التي لطالما نعتت بها. لكن وعندما تعذر هذا في معظم الحالات، للكثير من الأسباب المعقدة والمركبة، من بينها الحرب مع العراق ودعم الغرب والكثير من الدول للنظام العراقي، بدأت إيران تشعر بـ«العصبية والتوتر» وأن «دولة الثورة» مستهدفة، وأنه لابد لها من «أصدقاء» و«حلفاء» و«أذرع» يشكلون حائط دفاع عن الدولة الجديدة، ويمدونها بالطمأنينة. فبدأت إيران تبحث عن «تنظيمات» بدلا من « دول». ومن هنا ولد مفهوم «تصدير الثورة»، وهو المفهوم الذي خدم إيران كثيراً، كما سبب لها أيضاً ضرراً كبيراً، فقد وفر لها علاقات عميقة ومركبة ومعقدة مع تنظيمات، وأبعدها في المقابل عن دول. ويوضح المفكر اللبناني هاني فحص الذي وصل إلى إيران على أول طائرة تصل إلى طهران بعد نجاح الثورة مع ياسر عرفات، وكان دائم التنقل بين لبنان وإيران، كما بقي في إيران 3 سنوات من عام 1982 إلى عام 1985 بعدما عُين مسؤولا ثقافياً في مركز الاتصال بعلماء المسلمين في رئاسة الجمهورية الإيرانية، يوضح لـ«الشرق الأوسط» تعقيدات علاقة إيران بالدول العربية بقوله: «حظيت الثورة في إيران بإعجاب عدد من الدول العربية مرة، وتأييد البعض مرة أخرى، وسلبية البعض مرة ثالثة. والمعجبون كانوا حذرين - بعض دول الخليج مثلا - والمؤيدون كانوا قلة. وفي مقابل مصر والمغرب والأردن وغيرها ممن عادت الثورة، أيدتها سورية وليبيا بعد منظمة التحرير التي كنت قناة الاتصال بينها وبين الثورة. كانت إيران تشعر بالنقص في هذا الجانب وتبحث عن موقف عربي يحررها من التهمة العنصرية الفارسية، بعد مجاهرة الشاه في دعمه للعدوان الإسرائيلي ولدولة إسرائيل، وهو ما كان أحد الأسباب المعلنة للثورة على الشاه منذ عام 1963». وعندما قام الرئيس العراقي السابق صدام حسين بالهجوم على إيران، فيما الحكومة الجديدة والوزارات لم تستقر بعد، شعر آية الله الخميني، أن المستهدف ليس الاستيلاء على جزء من الأراضي الإيرانية، بل إسقاط النظام الجديد كله، وكانت فكرة «تصدير الثورة» أساسية وجوهرية بالنسبة للطريقة التي سيرد بها الخميني. فقد كانت شعارات الثورة الإيرانية مثل «لا شرقية.. لا غربية.. جمهورية إسلامية» أو «نه شرقي.. نه غربي.. جمهوري إسلامي»، و«صراع المستضعفين والمستكبرين»، و«أميركا الشيطان الأكبر.. وإسرائيل الشيطان الأصغر.. وورم سرطاني يجب أن يزول»، كانت هذه الشعارات جزءًا أساسياً من أدبيات الثورة الإيرانية. كان الناس في الشوارع تهتف: «فلتحيَا فلسطين.. ولتزُل إسرائيل»، فيما وسائل الإعلام الإيرانية تردد شعارات الخميني التي يرى البعض أنها دشنت جماهيرياً لمبدأ تصدير الثورة مثل: «عندما ثُرنا نحن إنما ثُرنا من أجل الإسلام. فجمهوريتنا هي جمهورية إسلامية. والنهضة من أجل الإسلام لا يمكن أن تكون خاصة ببلد بعينه، بل إنها تحد بالدول الإسلامية». كانت هذه الشعارات والأفكار سبباً في جذب الكثير من الحركات السياسية الثورية في المنطقة لإيران الثورة، أملا في أن تنال «الدعم الآيديولوجي» والأهم «الدعم المادي والعسكري» من دولة لطالما وصفت بأنها «شرطي الخليج» وبها خامس أكبر جيش تقليدي في العالم. لكن وفيما كان آية الله الخميني يردد في البداية أن هدف الانفتاح على تيارات وأحزاب وقوى أخرى في المنطقة هو التضامن المتبادل وأن «يعمل كل طرف على قضيته» وليس الاندماج بين «طرف مهيمن» وطرف «تابع» أو «علاقات وصاية»، إلا أن هذا النهج لم يستمر طويلا، والمثال البارز على هذا هو علاقة الثورة الإيرانية بحركة فتح وقائدها ياسر عرفات. فعندما نشبت الحرب وتقدمت القوات العراقية سريعاً، وأعلن صدام أن قواته ستدخل إيران خلال أسبوع، واحتلت القوات العراقية مدن مهران وقصر شيرين وخورمشهر وغيرها، وقال صدام: حدودنا مع إيران حيث تتواجد قواتنا.. كان الشعور في إيران أن هذه الحرب حرب «حياة أو موت» وأنه ما من أداة ينبغي توفيرها، سواء داخل إيران أو خارجها. ويقول الجنرال محمد رفيق دوست أحد أبرز قيادات الحرس الثوري الإيراني في شهادة له لقناة «المنار» اللبنانية التابعة لحزب الله: «عندما هاجمنا العراق لم تكن قوات الحرس الثوري قد أخذت شكلها المنتظم بعد. كانت أنشئت بشكل جزئي، وأخذ المتطوعون للتدريب، لكنها لم تكن قسمت إلى كتائب وألوية وفرق. فالجيش كان فقد قادته ومسؤوليه وسُرّح الكثير من الجنود وتجهيزاته كانت معطلة». ولهذا أمر الخميني بإنشاء تنظيم شعبي أطلق عليه اسم الباسيدج أو «تعبئة المستضعفين» من المتطوعين للحرب. ثم وبعد عام كانت إيران تحقق تقدماً بعد إعادة تشكيل الجيش والحرس الثوري والباسيدج، واستعادت خورمشهر، وشعر صدام أن الإيرانيين يزدادون قوة ففكر في وساطة لإنهاء الحرب ووقف إطلاق النار. وكان ياسر عرفات هو الوسيط الأمثل بسبب علاقة منظمة التحرير مع إيران. ففي عام 1969 أفتى الخميني بتوزيع جزء من أموال الزكاة وأموال الخُمس للمقاومة الفلسطينية المتمثلة آنذاك في فتح، فيما كان أول وزير دفاع إيراني بعد الثورة الإيرانية وهو مصطفى جمران ناشطاً في لبنان، كما التقى هاشمي رفسنجاني مع عرفات في أحد معسكرات التدريب الإيرانية في لبنان وحمل مساعدات إيرانية. وبعد انتصار الثورة 1979 كان وفد منظمة التحرير أول من وصل طهران لتهنئة الخميني، ووصل على متن الطائرة الخاصة للرئيس السوري حافظ الأسد. لكل هذه الأسباب كانت منظمة التحرير وسيطاً مناسباً بين العراق وإيران. بدأت الوساطة على يد خليل الوزير (أبو جهاد)، وعرضت منظمة التحرير التوسط أيضاً في العلاقات مع بعض البلاد الأوروبية، لكن الخميني قال ساعتها: «للثورة الإيرانية مشاكلها.. وللثورة الفلسطينية مشاكلها. وكلٌ يخلع شوكته بيده». فدخل عرفات بنفسه على الخط مع وفد وسطاء من الدول الإسلامية كان يزور طهران، لكن الخميني رفض الوساطة للمرة الثانية. ولم يتطرق أساساً إلى موضوع الحرب مع العراق وفتح مواضيع أخرى. ثم قال عباراته الشهيرة موضحاً أسباب رفض الوساطة مرتين: «إننا لا نريد أن نحارب. ومن البداية لم نحارب، لم نكن البادئين في الحرب. لكننا قمنا بالدفاع عن أنفسنا بعد أن هاجمونا وما زلنا في حالة دفاع. لكن لا يعني الدفاع أن نتركه، صدام حسين، بمجرد أن يطلب منا المصالحة. إنه كلام خاطئ». كان الخميني غير راضٍ عن موقف منظمة التحرير الفلسطينية لأن عرفات لم يقل إن العراق هو البادئ بالحرب. لكن موقف منظمة التحرير كان دقيقاً، فهي كانت تحتاج العالم العربي، وكان الفلسطينيون منتشرين في كل العالم العربي، وكان التوازن ضرورياً، لكن في إيران كان الخيار بين: إما أن تكونوا معنا أو ضدنا. ويقول هاني فحص إن التعقيد في علاقات الخميني وياسر عرفات بدأ عندما وضح أن كلا منهما كان يريد الآخر جزءًا من برنامجه الوطني، ومن هنا جاء الشقاق بين الطرفين. ويوضح فحص لـ«الشرق الأوسط»: «انفتح الخميني على القضية الفلسطينية من دون نية في التدخل في تفاصيلها ولم يتردد في إعلان تأييده لها، وقد استقبلني بارتياح شديد حاملا إليه رسالة التعزية بوفاة نجله السيد مصطفى عام 1978 من المرحوم ياسر عرفات حيث أجريت معه حواراً مفصلا ومعمقاً نُشر بالعربية والفارسية، اكتشفت من خلاله أنه لا يريد لأصحاب القضايا الكبرى أن ينخرطوا معه، بل يؤيدوه ويعملوا على قضاياهم، كما أنه أصر على تأييده لهم بكل الوسائل من دون أن ينخرط في خصوصياتهم. وفي رسالته رداً على رسالة عرفات أوصاه بأن يعمل، إضافة إلى عمله على طريق تحرير فلسطين، على تحقيق وحدة الأمة العربية.. لكن هذا النهج لم يستمر طويلا.. ولعل أهم أسباب الفراق بين الخميني وعرفات هو أن كلا منهما كان يريد الآخر جزءا من برنامجه الوطني الإيراني والفلسطيني».
لكن هذه البرودة لم تمتد إلى باقي عناصر الفصائل الفلسطينية. فقد دعمت إيران حركتي الجهاد وحماس، كما دعمت الوجود الفلسطيني في لبنان ودعت إلى توحيد جهود المقاومة اللبنانية والفلسطينية ضد إسرائيل، ثم أسهمت في تأسيس حزب الله. ففي الثمانينات عندما بدأت الهجمات المسلحة داخل لبنان لإجبار الفصائل الفلسطينية على المغادرة، أصدر الخميني بياناً يدعوهم فيه إلى عدم الخروج، وغضب من فتح وعرفات لاحقاً لمغادرتهم إلى بلدان أخرى منها قبرص وتونس، فقد كان يريد مواصلة موطئ قدم لإيران في لبنان، وهو موطئ القدم الذي أسسه موسى الصدر، إلا أنه كان عرضة للخطر كما رأى مسؤولون إيرانيون لأن حركة «أمل» التي أسسها الصدر كانت لبنانية النشأة، كوادرها تتنوع بين التيار الديني الملتزم واليسار. (كان واضحاً أن الخميني لم يعد يثق بأمل وكان يشعر أنها اختُرقت وبها عملاء، وكان لابد من تأسيس حزب وجناح عسكري جديد لا شك في ولاء عناصره). ويوضح السيد علي الأمين مفتي صور وجبل عامل، الذي كان من أبرز شهود العيان على التحولات التي شهدتها العلاقة بين إيران وحركة أمل خلال هذه التطورات الحساسة، لـ«الشرق الأوسط»: «بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني ووصولها إلى السلطة، نشأت العلاقة بين حركة أمل اللبنانية والنظام الجديد في إيران، وكان العامل الأساسي في هذه العلاقة هو العامل العاطفي الناتج عن الروابط الدينية والمذهبية، باعتبار أن حركة أمل أسسها الإمام موسى الصدر على مبادئ من الثقافة الدينية العامة في المناطق التي تسكنها غالبية من الطائفة الشيعية، التي تنظر باحترام وتقدير إلى العلماء ومراجع الدين بحسب موروثاتها الدينية. وبما أن الثورة في إيران كانت بقيادة رجال الدين، وعلى رأسهم الإمام الخميني، فقد لاقت التأييد في نفوس الطائفة الشيعية عموماً وحركة أمل خصوصاً، معتقدين أن هذه الثورة ستكون عوناً لهم في تعزيز مكانتهم في النظام اللبناني في تلك المرحلة.. وقد توقعت حركة أمل أن تكون إيران الجديدة إلى جانبها في الصراع الدائر بينها وبين التنظيمات الفلسطينية والأحزاب اليسارية اللبنانية، التي كانت تسيطر على الجنوب وكثير من المناطق اللبنانية. وكانت حركة أمل وقتذاك تحمل لواء الدفاع عن الشرعية اللبنانية، داعية إلى بسط سلطة الدولة على كامل تراب الوطن اللبناني». ولكن الذي جرى من القيادة الإيرانية الجديدة كان مخالفاً لتلك التوقعات، فبدأت تلك العلاقة العاطفية تتبدل، وتراجع التأييد الشيعي لإيران، فإيران الثورة، كما يقول السيد علي الأمين: «وقفت إلى جانب التنظيمات الفلسطينية في لبنان، وبدأ الخلاف السياسي والثقافي يظهر بين ما نشأت عليه حركة أمل والطائفة الشيعية اللبنانية من ثقافة وسياسة قائمتين على الارتباط بالمحيط العربي، انسجاماً مع أصولهم العربية والتمسك بمشروع الدولة اللبنانية الواحدة والعيش المشترك الذي قام عليه لبنان، وبين ثقافة إيرانية جديدة قائمة على رفض الأنظمة والدول التي لا تقوم على أساس ديني، وخصوصاً النظام اللبناني الذي وصفه الإمام الخميني في ذلك الوقت بالنظام الفاسد والمجرم، وبدأت بعض المجموعات المحسوبة على إيران والمرتبطة بسفارتيها في بيروت والشام يرفعون شعار الجمهورية الإسلامية في لبنان، وهذا ما رفضته الطائفة الشيعية وقيادتها السياسية والدينية بشكل قاطع وحاسم واعتبروه أمراً غريباً على حياتهم السياسية والدينية.. ولذلك وقفت حركة أمل والطائفة الشيعية في وجه المشروع الإيراني، الذي بدأت تظهر تباشيره على الساحة الشيعية في لبنان، وهنا أدركت إيران أن حركة أمل لا يمكن أن تكون أداة لها في مشروع تصدير الثورة خارج إيران».
وفي عام 1982 وبعد الهجوم الإسرائيلي على بيروت بدأت الفصائل الفلسطينية في الرحيل، فتوجه حسين الموسوي، أحد قادة أمل وينتمي للجناح الثوري للحركة، إلى هاشمي رفسنجاني في إيران وقال له: الجميع يهربون، لابد من التصرف وإلا فقدنا المقاومة الإسلامية في لبنان.. ما العمل؟. ثم جاء وفد من رجال الدين الشيعة من لبنان برئاسة عباس الموسوي لبحث «بدائل المقاومة الإسلامية» في لبنان وطلبوا نصيحة الخميني. فقال لهم: «ابدأوا من الصفر». وشكل هذا الاجتماع النواة التي تكون منها «حزب الله»، والذي سيعرف لاحقاً بأنه أبرز نجاح تحققه إيران فيما يتعلق بتصدير الثورة. فبعد انتهاء الاجتماع تحدث عباس الموسوي، الذي أصبح لاحقاً أول أمين عام لحزب الله، في مقر الخميني بحضور الصحافيين في طهران وقال في كلمته: «أهنئ نفسي وأهنئكم جميعاً، وأبارك لكم هذا الاجتماع. ببركة الإمام اجتمعنا. وأصبحنا نعي حكمة الإمام، وعظمة الإمام والأفق الذي كان يفكر فيه الإمام. اجتماعنا هذا المبارك هو الصاعقة التي نزلت على رأس القوى الكبرى. القوى التي حاولت في كل الماضي اختراقنا والنفوذ إلى الأعماق. تهانينا أيها المسلمون. تهانينا بهذا اللقاء ونشكر الله عز وجل أن بفضل إمام الأمة قد اجتمعنا». بعد ذلك أعطى الخميني أوامره بإرسال قوات من الحرس الثوري إلى لبنان للمساعدة في بناء وتدريب حزب الله. ويوضح الجنرال بالحرس الثوري رفيق دوست: «كنت أول من قدم إلى العاصمة السورية دمشق بناء على أوامر مباشرة من الإمام الخميني لتجهيز أرضية قدوم الحرس الثوري واستقبالهم في منطقة الزابداني كمرحلة أولى تمهيداً لنقلهم إلى جنوب لبنان». إلا أن الخميني، وكما يقول هاني فحص، لم يكن راغباً في تواجد عسكري إيراني ملحوظ على الأراضي اللبنانية، الحرس الثوري، كما كان يريد التركيز على الداخل الإيراني، وترافق مع هذا، كما يقول فحص: «رغبة بعض اللبنانيين الموجودين في طهران في تأسيس حالة نضالية ضد العدو الصهيوني بمساعدة إيرانية.. وكنت ممن استشير في الموضوع واتفقنا على مشروع مقاومة ليس إلا، ولكننا لم ندع إلى الاجتماعات السرية»، وهى الاجتماعات التي أدت إلى تأسيس حزب الله. وكانت هذه نقطة فاصلة في علاقات إيران مع محطيها الإقليمي. فإيران «الخائفة» من العزلة، باتت «مخيفة»، لأن تمددها بهذه الاذرع الطويلة خارج حدودها سبب مشاكل وتوترات سياسية وايديولوجية، لم يكن من الممكن ان تحدث في سياق أخر. واليوم وبعد 30 عاماً على قيام الثورة الإيرانية، يقول فحص إن تصدير الثورة ما زال قائماً، موضحاً: «غاب الشعار وحضر الواقع. الثورة صادرة وتصدر وهناك من يستوردها. إيران مستمرة في جمع الشيعة حولها مهما اعترضوا أو عاندوا لأنها تقدم نفسها كضرورة شيعية. والسنة العرب وغير العرب شتات في شتات، لا جامع ولا مرجعية. البلدوزر الإيراني لا يستطيع أن يحل أزماته الداخلية إلا باجتياز الحدود وصولا إلى غزة، قضية العرب الأولى، التي أصبحت وكأنها قضية إيران الأولى. السؤال: كيف نحول النفوذ الإيراني المتعاظم إلى دور متكامل ونحن من دون مشروع عربي للتضامن؟.. أنا أتمنى لإيران التي أحبها أن لا تقع في منطق القوة.. أرجو أن تعود إيران إلى إيران.. مختارة لا مجبرة».
الحلقة (9) ـ أوباما.. إيران.... كرباستشي «الدينامو».. أم عبد الله نوري «المفكر».. أم مهاجراني «المثقف».. أم محتشمي «رجل الميدان».. أم خوئيني «الصامت» أم خاتمي «الأب الروحي»؟ مهاجراني وخاتمي ونوري وجوه بارزة وسط الإصلاحيين
عندما تنتخب أميركا رئيسا ديمقراطيا.. تنتخب إيران رئيسا إصلاحيا. هذه هي الحكمة التقليدية، التي ربما تؤيدها بعض الشواهد. هاشمي رفسنجاني البراغماتي/ جورج بوش الأب البراغماتي. محمد خاتمي الإصلاحي/ بيل كلينتون الديمقراطي. أحمدي نجاد المتشدد/ جورج بوش الابن المحافظ. إذا يفترض أن يكون هناك باراك أوباما إيراني؟ لكن السؤال الذي يتردد داخل إيران هو: من هو ذلك الشخص؟ إذا سألت إيرانيا فوق الخمسين يميل للإصلاحيين فستكون الإجابة في الأغلب هى: محمد خاتمي. لكن إذا سألت شخصا في العشرينات أو الثلاثينات من العمر سيأتي اسم خاتمي الثالث أو الرابع بعد أسماء أخرى اكثر راديكالية في توجهها الإصلاحي، من بينها عبد الله نوري وزير الداخلية الإيراني خلال ولاية محمد خاتمي، وغلام حسين كرباستشي عمدة طهران السابق وأحد أبرز الوجوه الإصلاحية، وعطاء الله مهاجراني وزير الثقافة الإيراني خلال حكم خاتمي، ومحمد موسوي خوئيني الإصلاحي البارز وناشر صحيفة «سلام» الإصلاحية، بل وعلي محتشمي السفير الإيراني السابق في سورية والأب الروحي لحزب الله الذي هو «نسر» في السياسة الخارجية و«اصلاحي» داخليا. بالنسبة للشباب في إيران اليوم سيأتي اسم خاتمي وسط القائمة وليس على رأسها بالضرورة. فغالبية الشارع الإصلاحي في إيران بات اليوم على يسار خاتمي، وهو يريد رئيسا لديه القدرة على «توجيه اللكمات»، وليس «تلقيها صامدا». وبالتالي تقول جيزو ميشا أحمدي، الصحافية في قناة «برس تى في» الإيرانية لـ«الشرق الأوسط»: «لا يجب أن تكون هناك مبالغة في شعور الشباب في إيران بأن ترشح خاتمي حلا لكل شيء». ما يجمع كل هذه الأسماء المرشحة لكي تكون «باراك أوباما إيران» هو أنهم كلهم من خارج مؤسسة الحرس الثوري، باستثناء محتشمي، ومن خارج مجلس صيانة الدستور أو الخبراء أو تشخيص مصلحة النظام. لكن، وفيما يجمعهم إيمانهم بالأفكار الإصلاحية، فإنهم مختلفين عن بعضهم بعضا في «درجة الراديكالية» في أفكارهم الإصلاحية، وعلاقتهم مع المرشد الأعلى آية الله خامنئي، وقدرتهم على تحمل الضغوط، ورغبتهم في المواجهة. فحمد موسوي خوئيني، يعتبر من أهم الإصلاحيين في إيران، وله شعبية كبيرة بين النخب الإصلاحية. ويقول المقربون منه إنه دخل «غرفة الصمت» منذ إغلاق صحيفة «سلام» الإصلاحية التي كان مدير تحريرها خلال حكم خاتمي. لكن من يعرفون خوئيني يقولون إنه من الصعب أن يوافق على الترشح لانتخابات الرئاسة الإيرانية، فهو شخص مستقل جدا، ومن الصعب على آية الله خامنئي تطويعه أو إخضاعه. وهذا ما يجعله مرشحا «مستحيلا» بالنسبة لخامنئي أيضا. واليوم يتابع خوئيني ما يحدث على الساحة السياسة الإيرانية من دون أن يكون ناشطا فيها، ومن دون أن يكتب أو يتحدث كثيرا لوسائل الإعلام. غير أنه سياسيا ما زال ناشطا، فهو نائب تنظيم «روحانيون مبارز» الإصلاحي الذي يرأسه خاتمي، خلفا لمهدي كروبي الذي ترك «روحانيون مبارز» بعدما أسس حزب «اعتماد ملي» وشارك في الانتخابات الرئاسية عام 2005. أما عبد الله نوري، وزير الداخلية في عهد خاتمي، فهو «مفكر» الإصلاحيين، والشخص القادر أكثر من غيره على صياغة مفاهيم وأفكار الإصلاحيين، السياسية والاجتماعية والثقافية. عبد الله نوري بدوره دخل «غرفة الصمت» بعد معاناته السياسية عندما كان وزيرا للداخلية في عهد خاتمي، التي اضطرته إلى الاستقالة بعد حملات منظمة من المحافظين ضده. لكن على الرغم من غيابه عن ساحة المناصب الرسمية، فإن المحافظين ما زالوا يعتبرونه «عدو المحافظين الأول» بسبب اتهامه لبعض المرجعيات الدينية في قمة الهرم السياسي بالفساد المالي والسياسي. في عام 1999 اتهمت إحدى المحاكم الإيرانية نوري بالخيانة، وأصدرت حكما بإغلاق صحيفته «خرداد» التي كان يصدرها وسجنه خمسة أعوام بتهمة معاداة الثورة، فانتهز عبد الله نوري فرصة مثوله أمام المحكمة لينادي بالإصلاح، مذكرا من يتهمونه من المحافظين بأنهم لا يستطيعون فرض تفسيرهم للإسلام، وطعن كذلك في السلطة الدينية والقانونية للمحكمة، مشبها إياها بمحاكم التفتيش، واحتوت كلمات عبد الله نوري على نصوص كاملة من انتقادات آية الله منتظري لمبدأ ولاية الفقيه. واليوم نادرا ما بات عبد الله نوري يتكلم. غير أنه وبسبب قرب الانتخابات الرئاسية في إيران تحدث مؤخرا منتقدا أحمدي نجاد، قائلا إن الإصلاحيين لا يمكن أن يحققوا الفوز في ظل الاستبداد السياسي. ويقال عن نوري في إيران إنه ينطبق عليه المثل الإيراني القائل: «لا أستطيع تحمل الضغط.. أستطيع تحمل الضغط الشديد فقط». أما عطاء الله مهاجراني، أحد أبرز الوجوه الإصلاحية في إيران، فكان وزيرا للإرشاد والثقافة خلال ولاية خاتمي، إلا أنه استقال احتجاجا على التضييق على الصحافيين الإصلاحيين، وإغلاق غالبية الصحف الإصلاحية، وتشديد الرقابة على دور النشر. وفي خطاب استقالته الذي بعث بنسخة منه لآية الله خامنئي، ونشرته الصحف الإيرانية قال مهاجراني: «أنا لست وزيرا للإرشاد.. أنا وزير للثقافة». واليوم يطل مهاجراني على ساحة السياسة الإيرانية من دون أن يظهر اهتماما بالرغبة في خوض غمار الانتخابات الآن، مفضلا تأجيلها لأربع سنوات أخرى. مركزا اهتمامه على انشغالات ثقافية بين الترجمة والتأليف والدراسة. أما على محتشمي، فهو نموذج مغاير لكل هؤلاء الإصلاحيين، فلديه أفكار إصلاحية اجتماعية، غير أنه في الوقت نفسه لديه علاقات تاريخية قوية مع المؤسسات الأمنية في إيران، خاصة الحرس الثوري، وذلك بسبب دوره في بناء حزب الله عندما كان سفيرا لإيران في سورية. ومحتشمي من المقربين من آية الله خامنئي، ومن طلابه البارزين، وعلاقته معه كانت مباشرة وقوية. وهو حاد الذكاء، متعدد المواهب، بين السياسي والاستخباراتي. وإذا كان يمكن القول إن أبو إياد كان «مفكر» الحركة الوطنية الفلسطينية، بينما أبو جهاد «رجلها الميداني»، يمكن القول إن عبد الله نوري «مفكر» الحركة الإصلاحية، بينما محتشمي أحد رجالها الذين لا يملكون ملكات فكرية، لكنهم يملكون قدرات ميدانية. فهو السياسي الوحيد المحسوب على الإصلاحيين الذي تربطه حقيقة علاقات قوية مع المحافظين. وهو يمكن أن يكون «همزة الوصل» بين التيارين أو «ممر» فض النزاعات، إذا وصل الإصلاحيون للرئاسة بعد 4 أشهر. أما غلام حسين كرباستشي، عمدة طهران السابق والمعروف بأنه «دينامو» الحركة الإصلاحية بسبب علاقاته التي تمتد بين الحركة الإصلاحية وحزب كوادر البناء، فهو أحد أكثر الشخصيات شعبية في إيران بعد خاتمي. ولأن طهران قلب إيران السياسي، فقد كانت هذه الشعبية الكبيرة، مصدر متاعب كبيرة لكرباستشي الذي واجه اتهامات بالفساد وحكم عليه بالسجن وحظر عليه العمل السياسي. ومع أن هذا الحظر ينتهي هذا العام، إلا أن كرباستشي، مثل كثير من الوجوه الإصلاحية البارزة، لا يريد خوض انتخابات الرئاسة المقبلة، مما فتح الباب أمام خاتمي «الأب الروحي» للحركة الإصلاحية ووجهها الأكثر شعبية، والذي أعلن خوضه غمار السباق الرئاسي ليشكل «صداعا» مؤكدا لأحمدي نجاد. ويقول محسن كديور المفكر الإيراني البارز وأحد أبرز الوجوه الإصلاحية لـ«الشرق الأوسط»: «نحتاج إلى وجوه جديدة، لكن لدينا مجلس الأوصياء (يضحك). لدينا وجوه، ربما ليست كثيرة، لكنها كافية. وجوه يمكن أن تحصد أصوات الناخبين، لكنها لا تستطيع المرور من فلتر مجلس صيانة الدستور. على سبيل المثال لدينا عبد الله نوري وزير الداخلية الإيراني السابق في عهد خاتمي، فهو شخصية ممتازة، وإذا استطاع المشاركة في الانتخابات فإنه سيحصل على ما يكفي من الأصوات، لكن السيد خامنئي لن يسمح له (يضحك). كذلك السيد حسين كرباستشي عمدة طهران السابق، وهو أيضا يمكن أن يحصد الأصوات، ولهذا السبب ذهب إلى السجن (يضحك). أيضا هناك السيد محمد موسوي خوئيني ناشر جريدة «سلام». وفي زمن آية الله الخميني كان رئيس الهيئة القضائية، وهو قادر بدوره على حصد الأصوات. إذا لدينا ما يكفي من الوجوه وسط الإصلاحيين للوصول للرئاسة إذا كانت الانتخابات حرة. لكن لكل واحد من هؤلاء ملف قضائي، وكلهم دخلوا السجن لفترة بسبب انتقاداتهم للنظام والحكومة، وبالتالي من غير المسموح لهم المشاركة في الانتخابات». لكن كثيرا من هذه الوجوه الاصلاحية قد لا يرغب بالضرورة في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. فالمواجهة مع أحمدي نجاد لن تكون سهلة، ولن تكون شعبية أى مرشح إصلاحي بحد ذاتها ضمانا للنجاح، حتى خاتمي نفسه، وفي انتخابات نزيهه قد لا يفوز، إذا لم تتعد نسبة المشاركة فوق الـ70%. ويقول عطاء الله مهاجراني وزير الثقافة الإيراني السابق في عهد خاتمي لـ«الشرق الأوسط» إن كثيرا من السياسيين البارزين وسط التيار الإصلاحي لا يريدون المغامرة بحرق أوراقهم في هذه الانتخابات، موضحا: «من الأفضل الانتظار وتقويه الإصلاحيين وأحزابهم واستعادة صحفهم.. مثلما يقول المثل الشهير: مجتني الثمرة لغير وقت قطفها، كالزارع بلا أرض».
الحلقة (9) ـ صانع الملوك... كرباستشي لـ«الشرق الأوسط»: لا أصلح أن أكون رئيسا لإيران
وسط مكتب صغير مكتظ بالصحافيين والصحف والكتب وتليفونات لا تنقطع، يعمل غلام حسين كرباستشي الأمين العام لحزب «كوادر البناء»، الذي يرأسه هاشمي رفسنجاني، وعمدة طهران السابق بين أعوام 1988 و1998، ومدير تحرير صحيفة «كوادر البناء» الإصلاحية، وناشر أول صحيفة ملونة في إيران وهي «همشهري» التي تصدر عن بلدية طهران، والناشط السياسي البارز وسط الحركة الإصلاحية.
مهام ومناصب عديدة يتولاها كرباستشي، غير أنها ليست كل ما يقوم به، فهو أيضا «صانع الملوك» في إيران، أو «صانع الرؤساء» بالأحرى، مع أنه لا يتوقع أن يكون هو نفسه رئيسا لإيران بالرغم من الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها عندما كان عمدة لطهران، وترديد أهالي طهران إلى اليوم أنه أفضل عمدة تولى رئاسة المدينة. فهو الذي بنى الوسط التجاري والمالي في شمال طهران، مما أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات في شمال العاصمة بطريقة جنونية، وهو الذي زرع الآلاف من الأشجار للحدّ من التلوث في العاصمة التي تعد من أكثر العواصم تلوثا في العالم، وهو الذي بنى مئات الحدائق والمتنزهات العامة في طهران، وأزال رسوم الحرب العراقية - الإيرانية من فوق جدران العاصمة، وضاعف الضرائب على تجار البازار، ومنع السيارات من الدخول وسط طهران إلا بحساب معين، لدرجة أنه بات «أكثر شخص محبوب.. وأكثر شخص مكروه» في طهران في الوقت ذاته.
استبعاد كرباستشي أن يكون يوما رئيسا لإيران، بالرغم من مكانته وسط الإصلاحيين، يعود كما يقول هو إلى أن رئيس إيران يجب أن يكون مصدر إجماع بطريقة أو بأخرى، فيما هو «مكروه قطعا وسط المحافظين».
فكرباستشي الذي طالما عمل في الظل وفي العلن لمد الحركة الإصلاحية بدماء التجديد، كان في الوقت ذاته أول «كبش فداء» في «حرب البقاء» بين الإصلاحيين والمحافظين، بعد تولي خاتمي الرئاسة عام 1997.
فقد وجهت إليه المؤسسة القضائية المحافظة اتهامات بالفساد لإجباره على التنحي عن رئاسة طهران عام 1998، ثم حكم عليه بالسجن عام 1999 ليدخل السجن لأشهر قبل أن يتدخل رفسنجاني لدى المرشد الأعلى لإيران آية الله علي خامنئي لإطلاق سراحه.
لكن بالرغم من غياب كرباستشي عن واجهة المناصب السياسية الرسمية منذ تجربته في رئاسة بلدية طهران، فإنه من «قوى الدفع» الأساسية وسط الحركة الإصلاحية والبراغماتية. فخلال رئاسة هاشمي رفسنجاني لإيران بين 1989 و1996 كان كرباستشي مع رفسنجاني «مهندسَي» عملية نقل إيران وطهران من «دولة الثورة» إلى «ما بعد دولة الثورة». بدأ رفسنجاني خصخصة الاقتصاد وفتح إيران للاستثمارات الأجنبية وتحديث الاقتصاد وإزالة لافتات الدعاية للحرب العراقية - الإيرانية، وبنفس الفلسفة بدأ كرباستشي تحرير حوائط طهران من لافتات الدعاية للحرب، وتحديث العاصمة وبناء الجسور والكباري ومترو الأنفاق.
أما خلال رئاسة محمد خاتمي لإيران بين 1997 و2005 فكان كرباستشي من صانعي القرارات الأساسية للإصلاحيين، وما زال يذكر له أنه من الذين دعموا ترشح خاتمي وراهنوا على نجاحه بالرغم من أن خاتمي لم يكن ساعتها معروفا، ولم يكن المرشح الأوفر حظا للفوز.
الطريقة التي عمل بها كرباستشي في طهران، ومع كل من رفسنجاني وخاتمي، وفرت له ما يكفي من الأعداء. ويقول السياسيون الإصلاحيون إن تهم الفساد التي وجهت إليه لم تكن غير مؤامرة للتخلص منه لأنه بات ضلعا لا يحتمل في التيار الإصلاحي. واليوم وفيما يستعد خاتمي لخوض الانتخابات الرئاسية في إيران مجددا، يبرز اسم كرباستشي كواحد من السياسيين الإصلاحيين الذين سيكونون ضمن حلقة تحديد سياسات الإصلاحيين وأجندتهم وشعاراتهم.
ويقول كرباستشي، الذي لا يحب الدعاية أو التصوير، لكنه يحب السخرية من حاله ومن ذكريات سجنه في سجن «إيفين»، لـ«الشرق الأوسط» إن مزاج الإيرانيين اليوم هو مزاج انتخاب إصلاحيين، رافضا الحديث عن حزب كوادر البناء برئاسة رفسنجاني والحركة الإصلاحية بزعامة خاتمي على أنهما حركتان منفصلتان، موضحا أن «كوادر البناء» هي «المنبع الأم» لكل التيارات الإصلاحية في إيران. كما يتحدث عن علاقته مع رفسنجاني وخاتمي وتجربته في عمدية طهران.
وهنا نص الحوار:
* هل التحالف الحالي بين «كوادر البناء» برئاسة هاشمي رفسنجاني و«الإصلاحيين» برئاسة محمد خاتمي سيستمر، أم أنها علاقة تحالف مؤقت بسبب الظروف الراهنة ورغبة الطرفين في انتخاب رئيس جديد بسبب تحفظاتهم الكثيرة على أداء الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد؟
ـ لا، في الحقيقة كوادر البناء تعتبر الحركة الإصلاحية جزءا منها، لأن كوادر الإعمار هي المنبع الذي خرجت منه حركة التغيير في إيران منذ نهاية الثمانينات خلال رئاسة هاشمي رفسنجاني، فيما يتعلق بتغيير الظروف والانخراط في الانتخابات وإدخال قوى جديدة للبرلمان. أغلبية القوى الإصلاحية في إيران على اختلافها وقبل أن تتحول إلى تيارات ومجموعات مستقلة كانت في البداية جزءا من كوادر البناء. مؤسس الحركة الإصلاحية في إيران كان حزب كوادر البناء الذي وقف ضد المحافظين وقدّم مرشحين مستقلين للمشاركة في الانتخابات البرلمانية. قبل ذلك الوقت لم يكن هناك وجود للإصلاحيين على الخريطة السياسية الإيرانية، لم يكونوا موجودين في الساحة السياسية الإيرانية، لهذا ليس هناك شيء اسمه «هم ونحن»، أي الإصلاحيين والبراغماتيين، أو كوادر البناء وتيار خاتمي. أحيانا هناك أشخاص أكثر راديكالية وسط الإصلاحيين يريدون أن يميزوا أنفسهم عن كوادر البناء. لكن كلنا جزء من نفس فرع الشجرة، كلنا معتدلون في أفكارنا وآيديولوجيتنا، ونحاول الإلهام بالأفكار العقلانية والتحليل المنطقي. وفي انتخابات البرلمان الإيراني عام 2008 أنقذت كوادر البناء الإصلاحيين من التفكك بعد تحالف رفسنجاني مع خاتمي، ردا على خروج مهدي كروبي بلائحة مستقلة لحزبه «اعتماد ملي».
* ما الدور الذي سيلعبه رفسنجاني في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة؟
ـ رفسنجاني رمز الاعتدال والتفكير العقلاني في إيران، وفي أوقات كثيرة من عمر الجمهورية الإيرانية بعد الثورة كانت هناك دائما قوى متشددة وسط المحافظين تعمل ضده، لكن أيضا بعض الراديكاليين وسط التيار الإصلاحي عملوا ضده. أي أن رفسنجاني كان يحارب على جبهتين في وقت واحد، وهذا يؤكد مكانته كرمز الاعتدال والعقلانية، فهو حاول دائما أن يقود إيران إلى الاعتدال وإلى العقلانية. ونتيجة هذا فإن رفسنجاني هو أحد القوى الصلبة التي تقف ضد المتشددين والمحافظين الذين يسيطرون على السلطة التنفيذية في البلاد الآن. إزالة رفسنجاني لافتات الدعاية للحرب العراقية الإيرانية، وانتهج السوق الحرة، وفتح إيران لاستثمارات أجنبية، كل هذا جعل رجال دين وبعض النافذين في البازار غير راضين عنه.
* كيف تتذكر تجربتك في عمدية طهران وتوجيه اتهامات إليك أدت إلى تنحيتك عن المنصب؟ سمعت الكثير من الناس يقولون إنه خلال عمديتك لطهران كانت طهران في أحسن حالاتها، وشعبيتك كانت كبيرة في الشارع. فما الذي فعلته خلال سنوات حكمك لطهران جعل المحافظين يتوجسون منك إلى هذا الحد؟
ـ ما مر قد مر، وأنا لم أعد عمدة لطهران، وأن نفكر في ماذا حدث في الماضي من أخطاء ليس مفيدا للمستقبل. لكن على كل حال شعبية الإصلاحيين في الشارع الإيراني كان سببها الشعور العام الذي ساد بعد انتخاب خاتمي، أن الحركة الإصلاحية تتبلور وتبزغ وأنها ستغير الكثير في إيران، أضِف إلى هذا طريقة إدارتنا في بلدية طهران، وخلق المزيد من الوظائف وفرص العمل، والطريقة العقلانية المعتدلة التي كنا ندير بها شؤون طهران والبلاد، وعلى سبيل المثال المباني وطريقة الإدارة العامة والخصخصة وعمل المؤسسات. لكن ظهر أيضا لهذه الطريقة معارضون ومنتقدون، وشيء طبيعي أن يكون هناك منافسة بين الإصلاحيين والمحافظين. لكن في كل الحالات أفكار التحديث بدأت تدريجيا تغير حتى المحافظين، ومثال هذا الصحف، فمثلا كانت صحيفتنا في بلدية طهران «همشهري» أول صحيفة ملونة حديثة في إيران. كان الناس يسألوننا لماذا تصدرون صحيفة ملونة؟ لماذا تصدرونها في الصباح؟ فكل الصحف التقليدية في إيران كانت تصدر مساء. وتدريجيا هؤلاء الذين كانوا ينتقدوننا لأننا نطبع صباحا ولأننا نطبع صحيفة ملونة، بدأوا يفعلون نفس الشيء، حتى إن بعضهم أخذ نفس مقاس «همشهري».
* يقال بشكل استعاري إنك «صانع الملوك» في إيران، تعمل من وراء الستار لتقديم وجوه من وسط الإصلاحيين ليشاركوا في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لأنك لا تستطيع أن تشارك في الانتخابات بسبب الحظر عليك؟ لكن هذا الحظر يُرفع هذا العام. هل أنت متهم بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
ـ بخلاف الجانب الشخصي المتعلق بوجود أو عدم وجود الرغبة في الترشح للرئاسة، رأيي الشخصي هو أن الرئيس يجب أن يكون رمزا للوحدة الوطنية، يجب على الرئيس أن يجتذب اهتمام الجانب الأكبر من الشعب. هناك مرشحون راديكاليون وسط تيار الإصلاحيين يمكن أن يحصلوا على الكثير من الأصوات وسط الإصلاحيين إذا ترشحوا، لكن المشكلة أنه سيكون لهم معارضون شرسون أيضا وسط المحافظين الراديكاليين، وبالتالي لن يكون لهم حظوظ حقيقة ليكونوا رؤوساء، وإذا أصبحوا رؤوساء فسيواجهون مشكلات.
الرئيس يجب أن يكون رئيسا لكل الإيرانيين. إذا اختير الرئيس من حزب معين أو تيار سياسي معين فإن الحزب المعارض يجب أن يقبله. مشكلة أحمدي نجاد أن هناك جماعات، خصوصا المتعلمين وغير المحافظين، ضده وضد أفكاره وتصرفاته. وأعتقد أنه بكل المعايير لم يحقق نجاحا كبيرا حتى الآن في جذب عقول وقلوب الإيرانيين. نحن إلى حد ما عبرنا عن اعتراضنا وانتقدنا أحمدي نجاد ولدينا أسباب لذلك، لكنني شخصيا لا أصلح أن أكون رئيسا لإيران، فالرئيس يجب أن يكون رمزا للوحدة الوطنية، وأنا أعرف أن هناك بين المحافظين من لا يحتملون فكرة أن أكون رئيسا.
* هل صحيح أن البازار التقليدي ورجال الدين لم يعودا مسيطرين على صناعة القرار في إيران، وأن هناك نخبة جديدة من رجال الأعمال والعسكريين بدأت تنال صلاحيات أكبر وأوسع في مسألة صناعة القرار؟
ـ فيما يتعلق بالجانب المتعلق ببنية أو هيكل السلطة، عندما تتحول الدولة إلى المرحلة الصناعية، فإنه يحدث تلقائيا أن مصادر القوى التقليدية والطبقات النافذة مثل البازار التقليدي تضعف قوتها ويقل تأثيرها، ويحدث تلقائيا وطبيعيا أيضا أن البنى الاقتصادية التقليدية تتغير. حزب «كوادر البناء» الذي أسسناه مع رفسنجاني صعد وظهر على أساس اقتصاد التصنيع واقتصاد السوق والخصخصة. كنا ندعو إلى التحديث الصناعي، فيما كان البازار التقليدي يدعو فقط إلى الاهتمام بالتجارة التقليدية. ولأن حركة كوادر البناء كانت السباقة إلى الاقتصاد القائم على التصنيع، وليس على التبادل التجاري التقليدي، فإنها أوجدت لها قاعدة شعبية وسط الطبقة الوسطى والتكنوقراط، فيما الاقتصاد التقليدي أو البازار بشكله التقليدي، الذي يدعمه المحافظون، له شعبية في الأوساط التقليدية. لكن حركة كوادر البناء ليست حركة إصلاحية فيما يتعلق بالاقتصاد فقط، بل حركة إصلاحية بالمعنى الفكري، فكما قلنا نحن حزب ديمقراطية إسلامية ليبرالية، ولهذا ففي أي انتخابات حرة فإن البازار التقليدي لن يصوت للمرشحين الذين يؤيدون اقتصادا تصنيعيا حديثا، لكن في نفس الوقت هناك تغيير يحدث في إيران، والطبقة السياسية الجديدة التي تفكر في الاقتصاد الحديث سيكون المستقبل في أيديهم.
* هل التطورات الأخيرة في إيران تعكس ضعف الإصلاحيين، أم زيادة نفوذ المحافطين؟
ـ المشكلة ليست في من أقوى ومن أضعف في إيران، المحافظون في انتخابات البرلمان العام الماضي كان بحوزتهم وزارة الداخلية ومجلس الأوصياء ونجحوا في جعل الناس تحجم عن التوجه إلى صناديق الاقتراع بكثافة. قلنا نحن الإصلاحيين إنه إذا قلّت نسبة المشاركة عن 60% فلن يصل إصلاحيون كثيرون إلى البرلمان، ومع ذلك وبالرغم من أنه لم يكن لدينا فرصة حقيقة، بسبب عدم السماح للإصلاحيين بالترشح وعدم مشاركة الناس بكثافة في الانتخابات، فإن الجبهة المتحدة للمحافظين برئاسة أحمدي نجاد لم تحصل على عدد المقاعد في البرلمان الذي توقعت الحصول عليه. أما في معسكر الإصلاحيين فإننا لم يكن لنا مرشحون في الكثير من المدن الإيرانية، لم يكن لدينا أكثر من 100 مرشح في كل إيران، ومع ذلك الكثير من الناس صوتوا لنا وللمستقلين. عموما نحن لسنا أعداء فريق أحمدي نجاد أو أحمدي نجاد شخصيا، نحن نعارض سياساته. مشكلاتنا ليست مع الشخص، مشكلاتنا مع السياسات.
* هل تعتقد أن النجاحات النسبية التي حققها الإصلاحيون في انتخابات البرلمان الماضي يمكن القياس عليها في الانتخابات الرئاسية؟
ـ الإصلاحيون في إيران يعانون من تضييقات كثيرة، وفي انتخابات البرلمان 2008 كان هناك الكثير من الممارسات ضدنا، مثل استبعادنا من الترشح، ووسائل الإعلام الرسمية كانت ضدنا بقسوة (صحيفة «كيهان» مثلا اتهمت محمد رضا خاتمي، شقيق خاتمي، بالخيانة بسبب مقابلته مع السفير الألماني في طهران، واتُّهم مرشحون إصلاحيون بالتجسس لأنهم أجروا مقابلات صحافية مع قنوات أجنبية خلال الانتخابات). أنا واثق من أن الإيرانيين الذين يميلون إلى المحافظين يتقلص عددهم، فما لدى المحافظين حقيقة هو الدعم الذين يتلقونه بسبب المناخ الحالي في إيران. المحافظون حقيقة لا يستطيعون أن يحصلوا إلا على ما بين 25% و30% من أصوات الإيرانيين في أي انتخابات حرة. وتغلب الإصلاحيون على التضييقات المفروضة عليهم يعتمد على الظروف المستقبلية، فوسائل الإعلام والبرلمان والسلطة القضائية تدعم المحافظين، لكن الشعب لم يعد يدعمهم. غير أن فوزنا في الانتخابات يعتمد على مشاركة الناس في الانتخابات، وعلى سياسة أميركا حيال إيران. الأميركيون ضد سيطرة الإصلاحيين على السلطة في إيران لأن هذا يسلب من أميركا العذر للدعاية ضد إيران، فنحن الإصلاحيين عموما نتعاون مع العالم الخارجي وسلوكنا معتدل، ولا يمكن للأميركيين أن ينتهجوا أسلوب الدعاية ضدنا.
الأميركيون يفضلون أن يكون المحافظون على رأس السلطة في إيران. رأينا أنه خلال السنوات الماضية مرّرت أميركا 3 قرارات عقوبات ضد إيران، وبالتالي واشنطن حقيقة تفضل المحافظين وليس الإصلاحيين لأنهم يمنحونها الوسيلة للضغط أكثر على إيران. بينما خلال الـ16 عاما الماضية، خلال ولايتَي هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، لم نواجه مثل هذه العقوبات أو الإجراءات. ربما في العلن يقول الأميركيون إنهم يؤيدون الإصلاحيين، لكن الحقيقة غير ذلك.. فكرة أن هناك ارتباطا بين وصول محافظين للحكم في إيران وأميركا صحيحة في إطارها العام، فوصول المحافظين إلى البيت الأبيض يؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على إيران، إذ يمهد الطريق أمام المحافظين للحكم في إيران أيضا. لكن هل صحيح أن السياسة الأميركية حيال إيران ستختلف بوجود شخص مثل جورج بوش أو مثل باراك أوباما؟ لسنا متأكدين من هذا.
* ما هي حالة الصحافة في إيران اليوم؟
ـ الصحافة في إيران ليست في وضع جيد من حيث الجودة. الصحف في إيران اليوم إما حكومية تعتمد على تمويل الدولة أو النظام الحاكم، وإما صحف محافظة تتبع التيار المحافظ، أو ما يمكن أن نطلق عليها الصحف الصفراء. وهذه الصحف الصفراء لا تهتم بالسياسة، بل تكتب حول الحوادث والموضوعات الفنية، أما الصحف السياسية الملتزمة فإنها تواجه الكثير من التضييق والتشدد من جانب السلطات. وباستثناء صحيفتين أو ثلاث ليس لدى الإصلاحيين صحيفة حقيقة تتحدث باسمهم. والصحف التي تعتبر إصلاحية دائما ما تتلقى تحذيرات وملامحظات من السلطات. هذا هو حال الصحف الإصلاحية ومن بينهما «كوادر البناء»، حالنا في الصحيفة ليس جيدا، ولا نستطيع التوسع، وأرقام التوزيع منخفضة، وهناك قيود على ما نكتبه.. لكننا نواصل عملنا إلى أن تتغير الظروف.
إيران: 30 عاما على الثورة الحلقة (الأخيرة) ـ بين دولة بني صدر ودولة أحمدي نجاد.. قُبلة على يد خامنئي.... خامنئي اكتفى بمنصبه كرأس للدولة.. وإيران استطاعت أن تجعل طهران «محل السياحة السياسية».. وقم «محل السياحة الفكرية» * إيران بين من يريدون «دولة الشهداء».. ومن يريدون «دولة الأحياء» .. السلطة في طهران استطاعت أن تسيطر على قم.. بدون أن تلغيها («الشرق الأوسط»)
 تمايزت القوى السياسية في إيران ودخل التيار المحافظ ودور خامئني منع تفجرها («الشرق الأوسط»)
 منال لطفي
يوم الجمعة 2 يونيو (حزيران) عام 1989 استمع آية الله الخميني إلى الأخبار في التلفزيون الإيراني من غرفته بمستشفى طهران، حيث كان يعالج من السرطان، ثم قرأ بعض الأخبار والمقالات في الصحف الأميركية والإسرائيلية والإيرانية كما هي عادته. كان بصحبته هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان وعلي خامنئي رئيس الجمهورية آنذاك، يأتيان ويذهبان، فيما ابنه أحمد دائماً بجواره. عندما كان أحمد يذهب لمتابعة بعض أمور أبيه، كان الخميني يضبط الراديو على محطة الأخبار أو القرآن الكريم يستمع حيناً، أو يمشط لحيته ويضبط عمامته في مرآته التي كان يضعها بجواره على المكتب الصغير بجوار السرير. يوم السبت 3 يونيو كانت حالته تتدهور بسرعة، وقال الأطباء إنه ليس بإمكانهم فعل أي شيء. تجمع كل أفراد الأسرة وكبار المسؤولين في المستشفى. وبعد فترة قال الخميني لابنته زهراء: «أطفئي المصباح.. من أراد أن يبقي ومن أراد فليخرج.. أطفئي المصباح» ثم دخل في غيبوبة وأُعلنت وفاته صباح اليوم التالي. بعد وفاة الخميني تحدثت وسائل الإعلام عن صراع على خلافته بين من وُصفوا ساعتها بـ«المثلث الذهبي»، وهم أحمد الخميني وخامنئي ورفسنجاني. كان أحمد الخميني في اعتقاد الكثيرين الأوفر حظاً بخلافة الخميني كمرشد أعلى لإيران. لكن وبعد مرور ساعات فقط على الوفاة انعقد مجلس الخبراء لاختيار مرشد أعلى جديد، فالخميني لم يوصِ بشخص معين لخلافته، وإن كان أظهر ميلا إلى عدم توريث أحمد الخميني لمنصب قائد الدولة، كما أظهر ميلا نحو خامنئي لسبب ليس معروف بدقة. وذلك بعدما عزل منتظري قبل وفاته بأشهر من منصب نائبه. ويقول المفكر اللبناني هاني فحص الذي كان همزة الوصل بين الثورة الإيرانية والثورة الفلسطينية لـ«الشرق الأوسط» حول أسباب عزل منتظري: «السبب الجوهري هو أن منتظري بقي في موقعه الثوري لأنه لم يوضع في موقع سلطوي (أو في موقع رسمي بالدولة). ومن هنا أعطى منتظري نفسه حق المراقبة والاعتراض. وكانت مراقبته دقيقة واعتراضاته دقيقة وصادقة وشجاعة. لكن ضرورات الدولة كانت مختلفة وبعض القوى المستفيدة من السلطة والدولة عموماً لا تتحمل أن تبقى موضع مراقبة وإدانة واعتراض من خارجها. وأنا أشك بأن الخميني كان يرى تناقضاً حقيقياً بينه وبين منتظري. ولعل الصورة التي نُقلت إليه حول انتقادات منتظري كانت مضخّمة. بالإضافة إلى أن فريق عمل منتظري لم يكن واقعياً، وهذا ما لمسته بيدي. مع محبتي المعروفة له. كما أن فريق عمله لم يكن متماسكاً، ما أدى إلى اختراق من قبل الأجهزة، وعادة ما يكون المعارضون من داخل الفريق، والمخترقون، أقرب إلى المبالغة في تصوير الأمور وتضخيمها. وفي النهاية تقديري أن منتظري كان ضرورة ثورية، ومن دون شك ضمير، وبقى ضرورة علمية وأخلاقية للدولة، لكنه لا يملك ذهنية المساومة والتسوية كضرورة من ضرورات الحكم والإدارة». غاب منتظري في الإقامة الجبرية في منزله بحوزة قم. ومن قبله غاب آية الله محمد بهشتي وآية الله مرتضى مطهري ومحمد مفتح وآية الله طالقاني بعدما قُتلوا كلهم في التفجيرات التي أرعبت إيران بعد نجاح الثورة وظهور الخلافات بين تياراتها المختلفة. غياب هؤلاء أثر على طبيعة الدولة التي ستولد لاحقاً. فبينما كان الخميني يرى العالم بعين الفقيه، كان طالقاني يرى العالم بعين المجتهد الحر، وبينما كان الخميني ممثل الحوزة الدينية وطلابها خلال الثورة، كان طالقاني ممثل الجامعات والطلاب والمثقفين. وبالرغم من أن طالقاني عُين رئيساً لمجلس الثورة، وإمام جمعة طهران ممثلا عن المرشد الأعلى بعد نجاح الثورة، فإن علاقته مع الخميني لم تخلُ من اختلافات. ويقول فحص: «في حدود ما تيسر لي عرفت وعن كثب في علاقتي القصيرة مع طالقاني أنه لم يكن مختلفاً مع الخميني. وإن كان مقربون منه ومن أرحامه يؤكدون أن الخلاف بينه وبين الخميني كان عميقاً جداً. وأن الإمام وفريقه كانوا حريصين على استبعاده، لكنني أشك في ذلك. ما عرفته أن طالقاني كان على شك وتناقض غير خفي مع عدد من القيادات الدينية التي تحولت من الصفين الثاني والثالث إلى الصف الأول بعد الثورة، وحينها أخذ طالقاني ينعي الثورة.. والدولة لاحقاً». بغياب قادة الصف الأول مثل بهشتي وطالقاني ومطهري ومفتح، ظهر خامنئي ورفسنجاني من الصف الثاني إلى الصف الأول، وفي فترة وجيزة أصبح رفسنجاني رئيساً للبرلمان وخامنئي رئيساً للجمهورية عندما سمح الخميني لرجال الدين باحتلال المناصب السياسية بعد التصادمات الحادة بينه وبين حكومتي مهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر المدنيتين. وفي 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1981 انتخب علي خامنئي الرئيس الثالث للجمهورية الإيرانية بعد أبو الحسن بني صدر ومحمد رجائي، ليكون بذلك أول رجل دين معمم يحتل هذا المنصب في تاريخ إيران، ومير حسين الموسوي رئيساً للحكومة. وكان الخميني مرتاحاً أخيراً لشخصية الرئيس ورئيس الوزراء. وفي كلمة للخميني يوم تنصيب خامنئي قال: «عليكم أنتم المحافظة على هذا النظام.. فإن استمرار ما حصل في إيران أمر صعب. وعليكم القيام بحفظ هذا النظام رغم كل العقبات التي تواجهنا». إذ بعد عامين و8 أشهر من الثورة الإيرانية، استطاعت دولة الثورة أن تستقر قليلا برئاسة خامنئي للجمهورية ومير حسين موسوي للحكومة ورفسنجاني للبرلمان. لكنّ أياً من هؤلاء، خامنئي ورفسنجاني ومير حسين موسوي، لم يكن بارزاً في الأيام الأولى بعد الثورة، بل كان بهشتي ومطهري مثلا أكثر أهمية بكثير. كما أن أياً منهم لم تكن له اليد العليا، أو مقرباً من الخميني بما يكفي ليكون مرشحاً «طبيعياً» لخلافته. ويقول فحص: «كان محمد بهشتي ومرتضى مطهري ومحمد مفتح وعلى إشراقي حول الخميني، وكلهم كانوا متساوين في الأهمية، لم يكن بينهم شخص راجح على الآخرين. أما السيد خامنئي في هذه اللحظة فلم يكن له موقع متقدم، كان ممثلا للإمام في وزارة الدفاع، فيما كان رفسنجاني ممثلا للإمام في وزارة الداخلية. لكن عندما احتدمت المواجهات بين رجال الدين والجبهة الوطنية صعد نجم رفسنجاني الذي كان رقمه 17 في انتخابات طهران، لكنه أصبح في الصف الأول لاحقاً لأن رجال الدين خافوا من صراعهم مع الليبراليين وهجوم الليبراليين عليهم. لكن ساعتها لم يكن هناك أحد مرجح لدى الخميني». ويقول علي دري نجف آبادي، الذي كان ساعتها أحد أعضاء مجلس الخبراء، إن مجلس الخبراء عندما تدهورت صحة الخميني بسبب تمكن سرطان المعدة منه، بحث هل يكون منصب الولي الفقيه من عدة أشخاص يعملون معاً كمجلس «شورى مصغر»، أم يكون الولي الفقيه شخصاً واحداً، مثلما كان الخميني. لكن لم يتم التوافق على مجلس شورى، وتم التوافق على أن تكون القيادة «فردية» وأن يتم اختيار مرشد أعلى خلافة للخميني. ويقول نجف آبادي: «تم التداول على الشخصية المناسبة. وقد اختار مجلس الخبراء بأكثرية حاسمة شخصية حازمة صلبة شجاعة فقهيهً، وهى آية الله خامنئي». لم يكن خامنئي معروفاً آنذاك كواحد من آيات الله الكبار. والصورة التي انطبعت عنه في أذهان الإيرانيين هي صورته والكوفية الفلسطينية ملفوفة على عنقه، فيما تغطي عينه نظارة كبيرة وهو يتحرك بلباس عسكري على جبهة الحرب مع العراق يصافح الجنود والمتطوعين. وفي أوقات الهدوء يقرأ كتباً تاريخية وروايات، غالباً روسية مترجمة للفارسية. كان خامنئي يحب في الأدب الروسي واقعيته وحسه بالقدر وإدراكه لأهمية التاريخ، ويرى الرواية طريقاً للتعلم ونقل تجارب الآخرين، سواء أشخاص أو أمم. قرأ خامنئي على جبهة الحرب مع العراق عشرات الروايات، كان قارئاً نهماً وسريعاً، ومن ضمن الكتب التي قرأها رواية الكاتب الروسي ميخائيل خولوتشوف «الفجر الهادئ» أو quiet down وهى رواية حول الحياة والموت والقدر والوطن ومعنى الولاء. وعندما سأله أحد المقربين منه عن رأيه في الرواية، جاوبه بنقد كامل للرواية، فقد كانت له عين ناقد أدبي أيضاً. أما رفسنجاني فكانت له اهتمامات أخرى، كانت لديه مطبعة تجارية في قم أسسها مع أشقاء له خلال دراسته في حوزتها من أجل أن تساعدهم على تكاليف الحياة، وعندما تيسرت الأمور بعض الشيء بدأ يشترى أراضي ويستثمر فيها، كما كانت لديه أراض مزروعة بالفستق. كان رفسنجاني محباً للتجارة، ولديه مؤهلاتها، من الإقناع، إلى المساومة، إلى حب الربح. لم يكن خامنئي ورفسنجاني قريبين من بعضهما البعض في الصفات، إلا أنهما كانا قريبين من بعضهما البعض في المكانة في الأيام الأخيرة من حياة الخميني.
لم يزعج اختيار خامنئي لمنصب المرشد الأعلى أحمد الخميني، فقد كان حريصاً على تأكيد أن «بيت الخميني» لن يرث لا منصباً سياسياً ولا مالا من إرث الخميني (لم يتولَّ أحمد الخميني أي منصب رسمي في إيران حتى وفاته عام 1993)، إلا أن هناك شخصاً حامت الشكوك في أنه لم يكن مرتاحاً تماماً لاختيار خامنئي لخلافة الخميني، هذا الشخص هو رفسنجاني. فالبرغم من أن رفسنجاني دعم اختيار خامنئي في المنصب، إلا أن تبديل ميزان القوى بينهما أثر على علاقتهما. فقد كان رفسنجاني الأكثر نفوذاً وقوة قبل أن يتم تعيين خامنئي في منصب الولي الفقيه. بعد التعيين تغيرت الصورة. ويوضح فحص: «في تقديري أن التمايزات بين خامنئي ورفسنجاني بدأت مبكراً منذ أن كان رفسنجاني رئيساً للبرلمان. كان دور خامنئي كرئيس جمهورية ثانوياً جداً. وكنت في هذه الفترة أعيش تفاصيل هذا الوضع.. وإحدى العلامات أن خامنئي، بعد مقتل محمد علي رجائي ومحمد باهنر، رشح على أكبر ولايتي لرئاسة الوزراء، فأسقط ولايتي مرتين في مجلس النواب (البرلمان) الذي يرأسه رفسنجاني، وحل محله مير موسوي رئيساً للوزراء. وكان موسوي مرشح رفسنجاني. واعتبر اختيار موسوي وإسقاط ولايتي هزيمة لخامنئي. لكن عندما أصبح رفسنجاني رئيس جمهورية وأصبح خامنئي مرشداً أعلى تعدلت طبيعة النظام. تحول النظام إلى نظام رئاسي، وأصبح رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية، فوضع عملياً حداً لسلطة المرشد، فخلال عهد رفسنجاني كرئيس كان قوياً أمام خامنئي. ثم جاء محمد خاتمي والتبست الأمور. إذ كان التيار المحافظ مصرّاً على تحقيق مكاسب أمام الإصلاحيين. فعمل على إبطال مساعي الإصلاحيين، وساعد على هذا تردد خاتمي وقتها، ووضع الإصلاحيون المزعزع. عندما تدهور وضع الإصلاحيين، رجع رفسنجاني للانتخابات البرلمانية عام 2004 فدفع الثمن، فقد عاداه الإصلاحيون (بسبب اتهامات أنه لم يدعمهم بما يكفي). أما المحافظون فلم يصوتوا له في طهران، كما لم يصوت له الإصلاحيون، ليأتي في المرتبة 29 أو 30 في انتخابات طهران». ويتابع فحص: «تم تحمل رفسنجاني مسؤولية الفشل الاقتصادي. الطبقة المتوسطة حملته مسؤولية تراجع دورها، فذهب باتجاه رئاسة الجمهورية عام 2005 ليرمم الوضع، فعمل المحافظون بجد كي يمنعوه من النجاح. والإصلاحيون عملوا ضده بشكل موازٍ، كما عملوا ضد بعضهم البعض، فدفعوا الثمن معاً (الإصلاحيون ورفسنجاني) مما جعلهم الآن يميلون للتفاهم أكثر، مع بقاء رفسنجاني على صلة أوثق بتيارات معينة داخل تيار المحافظين ظهرت آثارها في انتخابه رئيساً لمجلس الخبراء». كان تبدل موازين القوى بين رفسنجاني وخامنئي والخلاف بينهما على تعيين ولاياتي أو مير حسين موسوي في رئاسة الوزراء أولى الدلائل على التوتر الذي سيأتي مستقبلا في العلاقات بينهما. فقد تلى ذلك محطات أخرى من بينها التباينات حول خطط إعمار إيران بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية وإزالة رفسنجاني للافتات الحرب. تلى ذلك التباينات بينهما حول انتخاب محمد خاتمي رئيساً للجمهورية عام 1997. فعندما طرح خامنئي اسم علي أكبر ناطق نوري رئيس البرلمان ساعتها للرئاسة الإيرانية خلفاً لرفسنجاني، مقابل رئيس المكتبة الوطنية في طهران محمد خاتمي، الذي كان سياسياً مغموراً لكن بخطاب ملهم وثقافة واسعة وروح إصلاحية، توقع خامنئي أن يفوز ناطق نوري بسهولة. وكان فوز خاتمي الكاسح بالنسبة له أشبه بالصدمة التي فاقمها ميل رفسنجاني لهذا الجناح الليبرالي أمام ناطق نوري الذي كان، وما زال، من رجال الحلقة الضيقة المحيطة بخامنئي. وطوال 8 سنوات من حكم خاتمي كانت علاقات خامنئي مع رفسنجاني وخاتمي باردة على أحسن الأحوال، ومشتعلة في أحيان أخرى كثيرة على خلفية استهداف أبرز الوجوه الإصلاحية في حكومة خاتمي، ومن بينها وزير الداخلية عبد الله نوري، ووزير الثقافة عطاء الله مهاجراني، ورئيس بلدية طهران غلام حسين كرباستشي، الذين اضطروا كلهم للاستقالة. ثم تدهورت العلاقات تماماً بعد دعم خامنئي للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أمام رفسنجاني في انتخابات الرئاسة 2005. وفي انتخابات مجلس الخبراء الأخيرة، لم يكن خامنئي يريد لرفسنجاني أن يترشح، ناهيك عن أن يفوز، وكان ميالا إلى آية الله جنتي. وكان من ضمن أعضاء مجلس الخبراء آية الله يزدي الذي قال لرفسنجاني إن جنتي هو الشخص المناسب لرئاسة مجلس الخبراء، فلم يعلق رفسنجاني، واعتقد يزدي أن رفسنجاني قرر عدم الترشح، لكن لاحقاً كان اسم رفسنجاني في قائمة المرشحين ليفوز بهامش كبير على جنتي. ولم يكن هذا خبراً طيباً لخامنئي الذي عندما توجه إلى المجلس في أول جلسة بعد انتخابه لم يتحدث عن رفسنجاني بصفته رئيساً للمجلس بل تحدث إلى المجلس بصفته الجماعية. ثم لاحقا أتسعت التباينات لتشمل هوية المرشد الأعلى لإيران مستقبلا بعد خامنئي. فرفسنجاني من بين الأسماء المطروحة، وهناك أيضاً رئيس جهاز القضاء في إيران آية الله محمود شهرودي. لكن هناك أيضاً مجتبى خامنئي، ابن خامنئي. وبينما لا يملك مجتبي لا الشعبية الجماهيرية ولا المكانة الدينية التي تؤهله للقيادة الفقهية لأنه درس في «حوزة طهران» لا «حوزة قم» ويحمل فقط مرتبة حجة الإسلام وليس آية الله، وبالتالي لا تنطبق عليه الشروط الدستورية لتولي منصب ولاية الفقيه، إلا أنه يملك قدرات وعلاقات سياسية وأمنية توفر له قاعدة دعم مهمة. فهو الساعد الأيمن لأبيه، إضافة إلى أنه يمسك بمفاتيح الحرس الثوري والاستخبارات والأجهزة الأمنية التي امتدت قوتها من مجرد القوة العسكرية، إلى القوة الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعل من يسيطر عليها.. يسيطر ضمناً على مفاتيح السلطة في إيران. وبالتالي يلفت نظر الإصلاحيين اليوم ويقلقهم أن المؤسسات الحاكمة في إيران باتت تنتقل تدريجياً وبشكل سريع من يد رجال الدين والتكنوقراط إلى يد العسكريين من الحرس الثوري، الذين باتوا يسيطرون على الحكومة والكثير من الوزارات. وأحمدي نجاد يعد تعبيراً عن هذا التحول، فهو أول رئيس إيراني من الحرس الثوري. كان هناك فارق كبير بين دولة أبو الحسن بني صدر الذي عندما أقسم اليمين الدستورية كأول رئيس بعد الثورة بدون أن يذكر اسم الخميني، وبين أحمدي نجاد الذي أقسم اليمين ثم توجه وانحنى أمام خامنئي وقبّل يده (ليس هذا أمراً شائعاً، فقد أثار جلبة في إيران. وفيما قال البعض إن الحركة يمكن أن تفسر ببراءة على أنها إعجاب من تلميذ بأستاذ، إلا أن آخرين كانوا أكثر تشككاً قائلين إن تقبيل اليد أمر رمزي سيدل لاحقاً على نوعية العلاقة المستقبلية بين أحمدي نجاد وخامنئي)، وهكذا ظهرت بين العهدين هوة كبيرة تكشف عن تحولات اجتماعية واقتصادية وآيديولوجية وسياسية كبيرة. فإذا كان رفسنجاني عندما كان رئيسا قد مهد لمشروع دولة ما بعد الثورة، ودشن عصر التكنوقراط والانفتاح على الخارج والاستثمارات الخاصة، فإن هناك قوى داخل داخل النظام قريبة من خامنئي، كما يقول ابو الحسن بني صدر لم ترتاح لهذا المشروع، فمشروعها كان مختلف تماما وهو الحفاظ على دولة الثورة وايديولوجية المواجهة، وهذا ما وفرته شعارات دولة أحمدي نجاد، وهو ما ساهم أكثر في صعود الحرس الثوري. ويقول فحص لـ«الشرق الأوسط»: «سمعت في إيران قبل سنة أن خامنئي قال إنه استلم الحكم فعلياً منذ 3 سنوات. أي منذ بداية رئاسة أحمدي نجاد، من دون أن يعني ذلك في ذهني أن أحمدي نجاد أداة للسيد خامنئي. خامنئي ليس حاكماً مطلقاً وإن رغب في ذلك، لكنه الأول، ومعظم مقاليد السلطة في يده. فهناك قوى متفقة معه وأخرى مختلفة معه، تضيق وتتسع دائرة اتفاقها واختلافها، كما هي طبيعة التحالفات في الدول التي تحكمها أطراف متعددة متمايزة على قاعدة مشتركات متحركة بينها، مع وجود مركز ليس في معزل عن الاهتزاز». ويشير فحص إلى أن ما حدث خلال الثلاثين عاماً بعد الثورة الإيرانية هو تدهور حال رجال الدين كقوة اجتماعية وسياسية، وصعود العسكريين، لكن بدون أن يلغي أي طرف الطرف الآخر، موضحاً: «لم يتم إلغاء أحد. كانت هناك مجموعة قوى، ما زالت موجودة. أحمدي نجاد يمثل بعضها، رفسنجاني يمثل بعضها، الشيخ أحمد جنتي يمثل بعضها، مصباح يزدي يمثل بعضها، الحرس الثوري يمثل أكثرها. بل إن هناك تمايزات داخل الحرس الثوري. فيما أصبح السيد خامنئي بعد انتخاب أحمدي نجاد في الوسط؛ بمعنى القدرة على التوازن، القدرة على حسم الأمور، صار هو المرجح بين كل القوى». ويتابع: «في تقديري أن الحرس كمؤسسة صارت كبيرة ومسيّسة، حتى السلطة التنفيذية موجودة فيها، هناك تفاصيل تدل على أن بها تمايزات. منذ البداية كان الحرس الثوري لاعباً سياسياً، ليس فقط لأن عدداً من أعضائه أصبحوا في الرئاسة أو في الحكومة أو البرلمان. الحرس لاعب سياسي يمكن أن يأتي بأحمدي نجاد، لكن هل يمكن أن يأتي بأحد قياداته في رأس الرئاسة أو السلطة التنفيذية؟.. لا أعرف. (أحمدي نجاد كان بالحرس الثوري في شبابه ولم يكن أحد قيادييه). التمايزات موجودة داخل الحرس الثوري، لكنها غير متفجرة، ودور خامنئي منع التفجير عادة، مثل تغيير قائد الحرس سابقاً، واستقالة علي لاريجاني من رئاسة مجلس الأمن القومي الإيراني. كلها تحركات ليس الحرس الثوري بعيداً عنها». لكن الحرس الثوري، الباسيدج والباسدران، وإن كان أعضاؤهم بالملايين، إذا تم حساب المتطوعين، إلا أنهم لا يشكلون طبقة اجتماعية. وبالتالي في إيران اليوم لا يستفيد الكل من هذا الصعود الكبير للحرس الثوري اقتصادياً واجتماعياً أو سياسياً، بل يستفيد البعض، ومن بينهم الطبقة «الطبيعية» لنفوذه من أبناء «شهداء» الحرب العراقية – الإيرانية. أما المشروع السياسي للحرس الثوري فهو «إحياء دولة الشهداء»، فنفوذ الحرس يتزايد كلما تم تذكير الإيرانيين بالخطر المحدق بهم والتضحيات التي ضحوا بها خلال الثورة والحرب والاحتياجات الأمنية للدولة اليوم والأعداء المحدقين بها وبثورتها. وهناك قصة حقيقية توضح كيف أن رمزية «الشهيد» ما زالت مهمة جداً في آيديولوجية الدولة الإيرانية، بدون أن تحمل لطبقتها امتيازات كبيرة اليوم كما كان عليه الحال قبل عِقد مثلا. هذه القصة هي أنه خلال الحرب العراقية - الإيرانية أسرت القوات العراقية صبياً إيرانياً في الثالثة عشرة من عمره، أُخذ الصبي إلى العراق ووُضع في معسكر اعتقال لأسرى الحرب كان مخصصاً للصبية. وسمح النظام العراقي آنذاك لوسائل الإعلام الأجنبية بالتوجه إلى المعسكر وتصوير الصبي الإيراني ومعه عدد آخر كبير من الأطفال والصبية صغار السن الذين شاركوا على جبهات القتال الأولى ضد العراق، وذلك للتدليل على أن إيران تستخدم أطفالاً في الحرب في انتهاك للقوانين الدولية. جاءت صحافية فرنسية إلى معسكر الاعتقال، وسألت الصبي عن حاله وعما إذا ما كان يلقى معاملة جيدة. فرد عليها الطفل قائلا: يا سيدتي.. رسالة فاطمة إليك هي أن أهم شيء للمرأة هو حجابها. نقل التلفزيون العراقي هذه اللقطة، كما نقلها التلفزيون الفرنسي. لكن الأهم أن التلفزيون الإيراني أيضاً نقلها مفتخراً بـ«البطل»، مكرراً أن هذا «الصبي البطل» فخر إٍيران، وأنه بالرغم من أنه في الأسر فإن لديه الشجاعة ليقول لهذه الصحافية هذا الكلام. كبر الصبي+ وصار رجلاً وترشح في انتخابات البرلمان الإيراني العام الماضي، إلا أن مجلس صيانة الدستور رفض ترشيحه لعدم الأهلية. قصة هذا الرجل تختلف كثيراً عن قصة حسين جانبخش، فهو ابن «شهيد» من «شهداء» الحرب العراقية – الإيرانية. دخل إحدى الجامعات الإيرانية في إطار النسب التي تحدد لأبناء الشهداء، وعندما تخرج وجد بسهولة عملا في إحدى المؤسسات الحكومية الإيرانية في إطار التسهيلات التي تعطى لأبناء «الشهداء». فذكرى «الشهداء» في كل مكان. في مدخل صحيفة «كيهان» المحافظة وبهو الإذاعة والتلفزيون هناك صور لشهداء الحرب مع العراق. وعند أعلى نقطة في سلسلة جبال «البرز» في شمال طهران تضاء شعلة خضراء عملاقة فوق الجبل على مدار الـ 24 ساعة للدلالة على عدم نسيانهم. والشعلة تقف على رفات العشرات من ضحايا الحرب الذين لم يتم التعرف على رفاتهم ودُفنوا بشكل جماعي في تلك المقبرة التي يزورها الإيرانيون في المناسبات الدينية. وأينما حولت عينيك في إيران تجد آثار الشهداء. أسماء الشوارع، مطهري وبهشتي ومفتح وطالقاني وقرني وجمران وهمت. وليست فقط أسماء الشوارع هي التي تحمل أسماء «شهداء»، بل الجامعات أيضاً. وهناك نصب تذكاري لضحايا الحرب العراقية الإيرانية في كل مكان بإيران تقريباً، ورفات للضحايا مدفون وسط جامعة طهران، يسير حولها الطلبة الذين لم يعودوا يبالون كثيراً بالسياسة. ويقول هاني فحص: «الشهيد هو الذي يحكم وليس البطل.. وهذا الفرق بين السنة والشيعة.. يحكمنا، نحن الشيعة، الإمام الحسين وهو شهيد لم ينتصر. أما السنة فيحكمهم عمر بن الخطاب وعمرو ابن العاص وعثمان ابن عفان وأبو بكر الصديق وعبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز، وهؤلاء جميعاً أبطال». لكن وفيما يصعد نجم العسكر، مستندين على آيديولوجية الشهادة وتأثيرها السياسي، يخفت صوت رجال الدين. فإذا كان الخميني قد حكم إيران من مدينة قم بعد نجاح الثورة، إلى أن استقر في طهران مضطراً بعد اكتشاف مرضه بالقلب، فإن قم اليوم ليست مهمة، ورجال الدين «خافتو الصوت»، فيما مدينة طهران هي مصنع السياسة والحكم».
ويقول محسن كديور المفكر الإيراني البارز لـ«الشرق الأوسط» إن ميل الحوزة في قم اليوم للصمت يعني ضمناً اعتراضها، موضحاً أن الكثير من آيات الله الكبار فيها معارضون لحكومة محمود أحمدي نجاد، ومن هؤلاء آية الله صانعي، وآية الله وحيدي وآية الله منتظري وآية الله أردبيلي الذي قال مؤخراً إن إيران في مفترق طرق. هؤلاء المنتقدون والمعارضون للحكومة الإيرانية الحالية وسياساتها يتعرضون للتضييق، غير أن هذا التضييق لا يبلغ حد المنع، ففي الحوزة اليوم منشورات من كل نوع، تعبر عن كل التيارات والأفكار. ومقابل آيات الله المعارضين، هناك آيات الله مؤيدون وداعمون لأحمدي نجاد والتيار المحافظ المتشدد، ومن هؤلاء آية الله همداني، وآية الله شيرازي، ومصباح يزدي، وهو ليس من آيات الله الكبار وليس مرجع تقليد، لكنه نافذ جداً وسط التيار المحافظ المتشدد. وعلى الجانب الآخر هناك آيات الله لا تتدخل في السياسة بشكل مباشر مثل آية الله صافي الكلبيكاني، الذي يعد من أبرز آيات الله في قم. ويقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط» حول قم وعلاقتها مع الدولة الإيرانية اليوم: «برأيي أن الدولة استطاعت أن تسيطر على الحوزة. وبعد السيطرة وسعت هيمنتها لدرجة أنها تركت الحوزة تعمل كما تريد (في إطار السيطرة الكلية). بمعنى أن التيار الكلاسيكي التقليدي قوي ومستمر ويعيد إنتاج نفسه. في الوقت نفسه التيار الإصلاحي، تيار السؤال الفلسفي واللاهوتي الفكري المفتوح على كل شيء أيضاً استراح وتحميه الدولة الآن من المحافظين. بات هناك نوع من التعايش؛ كل فريق يعمل على مساره بدون منغصات كثيرة، وهذا مسموح به، بشرط أنه لا يقترب من الدائرة الخطرة، وهى أن لا يحمل مشروعاً سياسياً آخر، سواء من قبل الكلاسيكيين التقليديين أو من قبل تيار الفكر الإصلاحي. المهم أن (مربع السياسة) يظل خارج اهتمامهم المباشر، أي لا يحملون مشروعاً. هذا التعايش يسمح بالتعدد داخل التيار التقليدي، أو الموالي للدولة، أي يسمح أن تخرج أصوات منتقدة من بين التيار المحافظ، خاصة أن مصباح يزدي لم يكن معدوداً في المراجع من وجهة نظر فقهية. وله نفوذ، وأحمدي نجاد محسوب فكرياً عليه، وهو يستقوي بالدولة، فمن الطبيعي أن تحدث الانتقادات. بالإضافة إلى أن المراجع علاقتهم الميدانية بالناس يومية. كنت أشاهد بعيني وأسمع بأذني أن شكوى الناس تصل إليهم، وفي هذه الحالة ليس لديهم مقدسات في السلطة. يعني ينتقدون الجميع، مطمئنين إلى أن موقعهم محفوظ، والدولة مطمئنة إلى أن دورهم محدد في مكان معين. أي لم يعودوا يشكلون خطراً على الدولة حتى لو انتقدوها، ولم تعد الدولة تريد إلغاءهم حتى لو انتقدوها.. فالدولة لا تقوي شخصاً على آخر داخل الحوزة. بمعني أن الأرجح علمياً هو آية الله خراساني لأسباب فقهية، لكن في السياسة في تقديري أن الدولة الإيرانية استطاعت أن تسمح بتعدد في المرجعية غير عادي، وتحفظ الجميع بدون أن تعطي مجالاً لأن يستقوي أحدهم على الآخر. ليس هناك زعامة الآن في قم. هناك مرجعيات بالمعنى الأكاديمي والديني تطل على السياسة لكنها لا تحمل رؤية سياسية. لا توجد زعامة ، ليست هناك هرمية. هناك تعدد متكافئ».
على الجانب الآخر وبعيداً عن العسكر والحوزة ومجالس العزاء الحسينية ومقبرة الشهداء في جامعة طهران والشعلة الخضراء فوق قمة جبل البرز. هناك إيران أخرى. فاليوم في طهران بنايات ومشروعات تعادل في بذخها أي مكان آخر في العالم. بنايات من الرخام، مقسمة لشقق، مع كل بناية حمام سباحة ومرآب سيارات خاص بكل شقة، أما الأسعار فتتجاوز دوماً المليون دولار. ولا يستطيع إلا قلة قليلة جداً شراء هذه الشقق شديدة الفخامة، إلا أن الأغلبية في إيران تسأل أيضاً عن نصيبها وتتحدث عن تباين كبير في مستويات المعيشة تبلور خلال الأعوام العشرة الماضية. يتساءل محمد محمدي: «أسر وعائلات شهداء الحرب تعطى مساعدات. أولادها يدخلون الجامعات مجاناً. لكن هذا وحده لا يجعل الحياة سهلة»، فيما يقول محمدي مفتح «أريد أن أعيش في بلدي، لكن الوضع غير واضح. الاقتصاد سيئ، والأسعار مرتفعة جداً، حتى لشخص مثلي يعتبر أساساً من الميسورين. لقد تزوجت حديثاً، لكنني لا أمتلك ما يكفي لشراء منزل. أي منزل لائق سيكون أكبر كثيراً من قدراتي المالية. ولأنني لا أدري ما الذي يمكن أن يحل بي، أو بأولادي عندما أنجب، فقد تقدمت مازحاً بطلب للحصول على البطاقة الخضراء للهجرة إلى أميركا لأن زوجتي، وهى إيرانية ولدت في أميركا، تحمل جواز السفر الأميركي. والمفاجأة أنه تم اختياري عشوائياً للحصول على البطاقة الخضراء. أنا لا أجيد الإنجليزية ولا أريد مغادرة إيران. لا أدري ماذا أفعل». بعد فترة قرر محمدي السفر مع زوجته. فهل الإيرانيون فخورون بالثورة بعد 30 عاماً على قيامها بالرغم من التباين الطبقي والمشاكل الاجتماعية؟. غالبية الإجابات ستكون نعم. يقول حميد رضا بهاني وهو شاب إيراني في العشرينات إنه وإن كان لا يخرج في الشارع ليحتفل كما يفعل الكثير من الإيرانيين بذكرى الثورة، إلا أن والدته تحيي الذكرى في منزلها بمشاهدة الأفلام في التلفزيون التي تتحدث عن الثورة، فيما يعكف هو ووالده على قراءة الصحف. ويوضح رضا بهاني: «كان والدي من الذين يحتفلون بالثورة، إلا أنه لم يعد يحتفل. هناك الكثير من الأشياء التي لا تعجبني ولا تعجبه. هذه الحكومة لا تعبر عن الثورة. هذه الدولة لا تعبر عن الثورة. لدينا سياسيون يمارسون السياسة، لكنهم لا يريدون منا أن نحاسبهم كما يحاسَب السياسيون في العالم. بل أن نتعامل معهم على أنهم فقهاء فوق الخطأ». واليوم وبعد 30 عاماً على الثورة يبدو أن نجاح الثورة كان أمراً سهلا مقارنة ببناء دولتها، وعندما يتذكر الكثيرون الخميني اليوم، لا يذكرونه بصفته قائد الثورة الإيرانية فحسب، بل بوصفه آية الله الذي أحيا نظرية قديمة لم يعطها أحد أي اهتمام حقيقي من قبله في حوزة قم، وهى ولاية الفقيه. وإذا كانت إيران قد توحدت خلف الثورة ضد الشاه، فإنها انقسمت حول «ولاية الفقيه» ودور رجال الدين في السياسة. حدث هذا منذ اليوم الأول للثورة قبل 30 عاماً كما أوضح لـ«الشرق الأوسط» أول رئيس إيراني بعد الثورة أبو الحسن بني صدر والذي اضطر للجوء إلى فرنسا، وكما أوضح إبراهيم يزدي أول وزير خارجية في حكومة مهدي بازركان أول حكومة بعد الثورة، والذي فضل البقاء في إيران والإصلاح من الداخل. لكن بالرغم من التأثير المركب الذي تركه مبدأ ولاية الفقيه وسيطرة رجال الدين ثم العسكر على السلطة في إيران، يرى فحص أن الدولة الإيرانية تخرج تدريجياً من حالة الثورة لتؤسس نموذج الدولة، موضحاً: «برأيي أن فكرة الدولة غلبت في إيران على الثورة وعلى الدين. بمعنى أن إيران دولة وطنية إيرانية ذات ثقافة إسلامية عامة، وفيها نكهة شيعية. لكنها دولة وطنية تعمل وفق معايير وطنية إيرانية. خامنئي طرح نفسه كمرجع، ثم هو نفسه وضع حداً لهذه المسألة.. مرجعيته لم تعد شرطاً إدارياً. اكتفي بمنصبه كرأس للدولة وليس للمرجعية. في رأيي أن إيران استطاعت أن تجعل طهران «المحل السياسي» وقم «محل سياحة فكرية» لطهران. في رأيي الدولة احتوت الحوزة بدون أن تلغيها. بالعكس لو لم يكن البابا موجوداً لخلقته، كما قال نابليون بونابرت. اى لو تكن الحوزة موجودة لوجدتها. هذا ما أثير في أعمال فكرية كبيرة من أن الحوزة والتعليم الحوزوي هو تعليم للسلطة، تعليم للدولة. وليس عملية معرفية خالصة. هذا ما حدث، حتى الإصلاحيون في النهاية إذا صارت لهم دولتهم، فالأولوية للدولة لا للحوزة. وهذه أولوية طبيعة، المسألة ليست أخلاقية. الأولوية للدولة عملياً وواقعياً». ويتابع: «إذا أردت أن أصف إيران بعد الثورة ومن خلال الدولة بكل تطوراتها أرى أنه في كل الحالات كانت إيران هي أكثر دولة مركزية فيها حريات، وأكثر دولة ديمقراطية فيها مركزية. إذا جئناها في جهة الديمقراطية نصل إلى المركزية، إذا جئناها في جهة المركزية نصل إلى نسبة ديمقراطية. تقديري أن هذه النسبة من الديمقراطية خفت في الإدارة وفي صناعة الرأي في القرار التنفيذي في الأزنة الأخيرة. وفي رأيي أن الجمهور الإيراني جمهور إصلاحي. والإصلاحيون لم يصلوا إلى مستوى إصلاحية الجمهور. في رأيي هناك مسلمة وهى أن الذي يقاتل يريد أن يحكم. ففي النهاية :الأمن موضوع سياسي، علماً بأن الحرس الثوري أعاد بناء نفسه بطريقة متماسكة بعد الحرب مع العراق، وأعطى أهمية للمسألة الاقتصادية. الحرس الثوري مؤسسة شاملة، ليست عادية أبداً وهى صاحبة النفوذ الأول، علماً بأن داخلها يوجد تعدد ما، حتى يوجد مزاج إصلاحي لا يعرف كيف يعبر عن نفسه. وهذا ليس سراً». ومن الشاه إلى مهدي بازركان وبني صدر بعد الثورة، إلى علي خامنئي ورجال الدين من قم، إلى سيطرة العسكر والحرس الثوري اليوم.. تتأقلم إيران. تتأقلم مع الظروف الداخلية والإقليمية والدولية.. لكن التأقلم يترك بصماته، لذلك من الإنصاف القول إن إيران اليوم مزاجها سيئ. ولا تحتاج إلى جهد كبير لتتبع آثار هذا المزاج السيئ. يكفي أن تسير في الشارع فترى الفتيات لا يرتدين غير الأسود والرمادي والبني. ونادراً ما تجد فتاة لبست ألواناً زاهية، إلا في المناطق الثرية في شمال العاصمة، لكن نسب هؤلاء قلت كثيراً في خلال عام واحد. يكفي أن تنظر إلى الناس في الشارع لترى تأثير المشاكل الاقتصادية، وطوابير البنزين، وتأثير تقنينه. يكفي أن تنظر إلى مزاج الإيرانيين العصبي بسبب تقنين الكهرباء، تنقطع بشكل يومي لمدة ساعتين أو ثلاث، وتترك الناس في حالة من الغضب والإحباط وتعكير المزاج بسبب عدم استخدام الكمبيوتر أو ثلاجات المنازل أو التلفزيونات خلال ساعات الانقطاع هذه، في بلد به ثالث أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة على مستوى العالم، لكنه يستورد قرابة 40% من احتياجاته من الجازولين لأنه يفتقر إلى الموارد أو المعرفة اللازمة لتحديث معامل التكرير لديه بما يمكنه من ضخ المزيد من النفط. إيران اليوم بمزاجها السيئ تجد نفسها بين عالمين. عالم يحكمه من يريدون «دولة الشهداء» وعالم يتطلع إليه من يريدون «دولة الأحياء».

ملف خاص..200 يوم على حرب غزة..

 الأربعاء 24 نيسان 2024 - 4:15 ص

200 يوم على حرب غزة.. الشرق الاوسط...مائتا يوم انقضت منذ اشتعال شرارة الحرب بين إسرائيل و«حماس» ع… تتمة »

عدد الزيارات: 154,120,388

عدد الزوار: 6,935,635

المتواجدون الآن: 81