الاستخبارات الاقتصادية ومقاولو الأمن الوطني والقومي

تاريخ الإضافة الأربعاء 5 كانون الثاني 2011 - 6:12 ص    عدد الزيارات 531    التعليقات 0

        

راكان المجالي

لم تكن دعوة رئيس الحكومة الروسية فلاديمير بوتين مؤخّراً صادمة، بقدر ما كانت مستغربة، حين حثَّ جهاز الاستخبارات الخارجية، «إس في آر»، على «تنشيط التجسس الاقتصادي للمساهمة في تحديث روسيا». فمعظم عمل أجهزة الدول الغربية، وبمستوياتها المختلفة، ومنذ حقب زمنية بعيدة، تصبّ في خدمة مصالح وبيوت المال الغربية، في الدول التي أنشأتها. وقد برّر دعوته بأنّ «هناك أنشطة مختلفة لأجهزة الاستخبارات: التجسس التقني العلمي، والتجسس السياسي»، وبما أن لـدى «روسيا» أهــدافاً، في مجال التحديث الاقتصادي، فإنّ «أية مساعدة من قبل أجهزة الاستخبارات في هذا المجال تبقى موضع ترحيب».
غير أنّه تصريح، وبصرف النظر عن تبرير «بوتين» له، يأتي في سياقٍ آخر، يبدو أنّ مفاعيله قادمة ممّا أصاب أجهزة الاستخبارات الغربية والإقليمية، في السنوات العشر الأخيرة، مِن نَهَمٍ وسُعارٍ، في عملها في المنطقة العربية وجوارها، وخصوصاً في أسواق النفط والغـاز والمال والعقارات والسلاح. الأمر، الذي طبع وهَيمَنَ على عمل العديد من أجهزة الاستخبارات العربية، والذي سقطت، بنتيجته، رؤوسُ رموزٍ أمنية عربية كثيرة، وبعُنفٍ صامتٍ، ما تزال معظم تفاصيله غامضةٌ حَدّ الإثارة.
في العقود الماضية، كانت المعــلومات الاقتصادية تدخل ضمن مهمات البعثات الدبلوماسية الغربية، وبشكلٍ هامشي ضمن اهتمامات المحطّات الاستخبارية في تلك البعثات، وعلى نحو أقلّ، على هامش مهمات المبعوثين «الخاصّين..» السياسيين، أو الذين يأخذون شكلهم. أما اليوم، فثمّة تحديات اقتصادية جديدة، فرضت أشكال صراعٍ ومواجهات مختلفة، على أجهزة الاستخبارات والجاسوسية، حول العالم. ما أدّى، في العقد الأخير، إلى بروز «مدارس..» في الاستخبارات الاقتصادية، منها: الألمانية، والأميركية، واليابانية، والفرنسية، والصينية.. وغيرها.
وليس المقصود بمفهوم «الاستخبارات الاقتصادية..» هنا ما يُطلق عليه «الذكاء الاقتصادي..»، أو «التنافسية الاقتصادية..»، وما يتّصل بها من جمع معلـومات. بل عملٌ استخباريٌ، يدخل في صُلب وآليات نشاط أجهزة الأمن السرية والتجسسية، بما في ذلك تنفيذ عمليات ومهمّات اقتصاديــة ومالية سريّة، تُديرها أجهزة استخبارات، وتستخدم، في سبيل تحقيق ذلك، أحدث الوسائل والتقنيات، التي يصعب على الأفراد والمؤسسات الصغيرة الحصول عليها.
وفي هذا السياق، تُعدّ مدرسة «استخبارات الحرب الاقتصادية..»، في فرنسا، رائدة في هذا المجال، ومِن أُولى المدارس، على مستــوي العالم، من حيث الاهتمام بقضية الاستخبارات الاقتصادية. فقد تمّ تأسيس المدرسة الفرنسية، منذ نحو عقدٍ ونصف عقد، لتُعنى بجمع المعلومات التنافسية الاقتصادية، علي المستويين المحلي والدولي. وفي تلك المنـشأة الفرنســية، التي أقيمت خصوصاً لغرض «التجسس الاستثماري ومواجهته..»، في آنٍ معاً، يتمّ اختيار المتدربين المَهَرَة، من ذوي الاختصاصات الدقيـقة، في المجالات كافة. حيث يتمّ إخضاعهم لبرامج تأهيلية عالية المستوى، تشمل: أساليب التفكير الإستراتيجي، والاستخباراتية الاقتصادية الهجومية، وإدارة المعرفة، والسيطرة علي المخاطر المعلوماتية، إضافة إلى دراسة اللغات وتطبيقاتها العملية. وتسعى تلك البرامج إلي تعليم المتدرّب، وتدريبه على كيفية استخدام المعلوماتية، والتقارير السنوية للشركات، إضافة إلى الوسائل التجسسية التقليدية، من عملاء وتنصّتٍ ومراقبةٍ، من أجل الحصول واستخراج أدقّ المعلومات الاقتصادية سريّةً، للدول والشركات. والمحصّلة، هي صناعة «جاسوسٍ اقتصادي..» مؤهّل، ليجري تقديمه وزراعته لاحقاً في مؤسسات دولية وإقليمية حساسة.
وتلعب التقنيات ووسائطها هنا الدور الأبرز، في تحقيق نجاحات الاستخبار الاقتصادي. ولهذا السبب، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية تحتلّ مرتبة الريادة في هذا النشاط، من حيث استخدام التقنيات، والوسائل التقنية المتطورة، المشروعة منها وغير المشروعة، في التجسس على الدول والشركات المنافسة لها، على مستوى العالم. ما تنبّهت له مؤخّراً العديد من الدول المتقدمة، فلجأت إلى وسائل دفاعية، من أجل حماية مصالحها الإقتصادية والحيوية، عبر تعمُّد إصدار تقارير وبيانات زائفة، لتضليل جحافل الجواسيس الاقتصاديين، الذين يلهثون خلف كل رقم أو خبر اقتصادي.
أما على مستوى أجهزة الاستخبارات المركزية للدول، فقد قامت معظم الأجهزة الغربية باستحداث وحدات استخبارات اقتصادية في داخلها، تكون معنية بمتابعة أمن وتنسيق المصالح الاقتصادية لدولها، وما يرتبط بذلك من صراع وتنافس دولي وإقليمي. وفي هذا السياق، قامت الشركات النفطية الأميركية، بالتنسيق مع جهاز المخابرات الوطني التركي، ومن خلال وكالة المخابرات المركزية الأميركية، بتمديد خطّ أنابيب: (باكو ـ أذربيجان، تبليسي - جورجيا، جيهان - تركيا)، والذي كان من المخطط له أن يتواصل تمديده، ليمرّ من تحت مياه البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى «إسرائيل».
أما إقليمياً، فقد حدّثت العديد من دول منطقة الشرق الأوسط بُنية استخباراتها، لتنسجم مع مصالحها الاقتصادية المتجددة. فعلى سبيل المثال، مثّلت «الأسواق الخليجية..»، و«صادرات النفط العراقي..»، و«تأمين خط أنابيب نفط كركوك ـ الموصل ـ تركيا..»، مصدر اهتمام جديدا لجهاز المخابرات التركية.
خبيرٌ أميركي، ورئيس سابق لمكتب التقديرات القومية في «السي آي إيه»، وضع تعريفاً لمفهوم التجسس الاقتصادي، وطريقة لقياس عمل الاستخبارات الاقتصادية، حين قال بأنّه: «.. يجب على جهاز الاستخبارات مراقبة ما إذا كانت هناك محاصيل جديدة، أو تطوير للطرق الحديثة في الزراعة، أو تغيير في آلياتها، أو في استخدام الأرض والسماء، لخدمة ذلك، ومتابعة مشاريع الاستصلاح الزراعي. كما يجب تتبّع اكتشاف أي تقدم علمي جديد، ونشوء أية مصانع أو مناجم جديدة». ما يعني تتبّع ومراقبة كل ما يتّصل بالحياة اليومية للمواطن العادي.
وهو ما شاهده الناس في البلاد العربية، في السنوات الأخيرة، على هيئة مؤسسات خيرية وتطوّعية، ومراكز أبحاث، وجمعيات غربية، مجهولة الأهداف والدوافع، تُنفق بسخاءٍ غير معهود، على شؤونٍ للناس، لا تعني حتى دولهم نفسها.
وكلُّ ذلك، شاهدته أجهزة الاسـتخبارات العربية، في السنوات الأخيرة، ولم تستهجنه أو تستغربه، بل استمرأته، وشاركت في بعضه، ولأسباب كثيرة لا مجال لتفصيــلها هنا. ولعلّ الأبرز والأخطر هو ما أحـدثه، من حــالات إغراء عند تلك الأجهزة، فتحوّل بعضها إلى مقاولين رئيسيين وفرعيين، للكثير من الصفقات الاقتصادية المشبوهة، ناهيك عن أعمال السمسرة الهامشية، وبعيداً عن علاقة ذلك بأيٍّ من أشكال الحماية، للأمن الاقتصادي الوطنــي أو القومي، كما هي حال أجهزة الاستخبارات الغربية والإقليمية.

 

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024..

 الأحد 28 نيسان 2024 - 12:35 م

المرصد الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا — أبريل/نيسان 2024.. حول التقرير.. ملخصات التقرير … تتمة »

عدد الزيارات: 155,702,011

عدد الزوار: 7,000,784

المتواجدون الآن: 80