لماذا أخفقت جهود المساعدات الأمريكية لدعم الديمقراطية؟
تقرير واشنطن- رضوى عمار
ورث الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" ثمة تحديات عن سلفه، من بينها إعادة بناء مصداقية وفعالية المقاربة الأمريكية لتعزيز الديمقراطية في الخارج. وهي واحدة من أكثر التحديات تعقيدًا، على الرغم من أهمية الدور الذي تلعبه المساعدات الأمريكية في مجال تعزيز الديمقراطية. فقدمت الولايات المتحدة مجموعة كبيرة من المساعدات في مجال الديمقراطية على مدى الخمس والعشرين سنة الماضية، وهي الآن تكرس ما يقرب من 2.5 بليون دولار سنويًا (حوالي نصف المساعدات موجهة إلى العراق وأفغانستان)، لكن الإطار العام لهذه المساعدات في حاجة إلى التنشيط.
وفي هذا السياق نعرض للجزء الأول من دراسة نشرتها مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي تحت عنوان "تنشيط المساعدة الديمقراطية: تحدي الوكالة الأمريكية للتنميةRevitalizing Democracy Assistance: The Challenge of USAID". والدراسة من إعداد توماس كاروثرز Thomas Carothers نائب رئيس شئون الدراسات في المؤسسة. والخبير في السياسة الخارجية الأمريكية. بالإضافة إلى كونه مؤسس ومدير برنامج الديمقراطية وسيادة القانون، الذي يهدف إلى تعزيز الديمقراطية وحكم القانون وتحليل تجارب الدول الديمقراطية والجهود التي تبذلها الولايات المتحدة ودول أخرى من أجل تعزيز الديمقراطية.
برنامج الديمقراطية على أجندة الوكالة الأمريكية للتنمية
أكدت الدراسة على أن الوكالة الأمريكية للتنمية شاركت في بعض مساعدات التنمية السياسية في الستينيات والسبعينيات، إلا أن الأصول الرئيسة لعملها الحالي لدعم الديمقراطية ترجع إلى الثمانينيات في عهد الرئيس رونالد ريجان الذي ركز على الترويج للديمقراطية في مواجهة الاتحاد السوفيتي. وفي هذا السياق، شجعت كلٌّ من الإدارة الأمريكية والكونجرس على تدشين الدبلوماسية العامة، ومبادرات المساعدات الخارجية التي يتصل عملها بنشر الديمقراطية في الخارج. وهو ما تجلى في إنشاء الصندوق الوطني للديمقراطية والجهات الأربعة الرئيسة للمنح: المعهد الجمهوري الدوليThe International Republican Institute(IRI)، والمعهد الديمقراطي الوطنيThe National Democratic Institute(NDI)، ومركز المشروعات الدولية الخاصةThe Center for International Private Enterprise(CIPE)، والمركز الأمريكي لتضامن العمال الدولي The American Center for International Labor Solidarity(ACILS)، وذلك في الفترة من 1983 إلى 1984.
وتركزت برامج الديمقراطية للوكالة الأمريكية للتنمية في الثمانينيات أساسًا في أمريكا اللاتينية، باستثناء بعض التجارب الصغيرة في آسيا. وفي التسعينيات شهد هذا الاتجاه تحولات سريعة في شرق ووسط أوروبا، بالإضافة إلى الاتحاد السوفيتي السابق، وإفريقيا وجنوب الصحراء، وجنوب شرق وشرق آسيا. وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من صناع القرار في الغرب للتوجه إلى توسيع نطاق المساعدة لدعم مثل هذا الاتجاه على نحو سريع.
وفيما يتعلق بالمؤسسات التي تختص بتقديم مساعدات الديمقراطية، فقد أشارت الدراسة إلى وجود ثلاث منظمات رئيسة تمول هذه المعونات: وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية The United States Agency For International Development(USAID)، وإدارة شئون الدولة Department of State، والمؤسسة الوطنية للديمقراطيةThe National Endowment For Democracy(NED). وخارج الوكالة الأمريكية للتنمية توجد وزارة الخارجية، وعدد من الإدارات الحكومية الأخرى التي تركز أيضًا على برامج المساعدات لدعم المؤسسات والممارسات والديمقراطية في الخارج، تتضمن وزارة الدفاع The Department of Defense، ومؤسسة تحدي الألفيةThe Millennium Challenge Corporation(MCC)، ووزارة العدلThe Department of Justice . ونوهت الدراسة إلى أن معظم الهياكل والأساليب المستخدمة حاليًا في تمويل وتنفيذ هذه المساعدات وضعت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم.
من ناحية أخرى، أشارت الدراسة إلى أنه في عام 2002، كجزء من عملية إعادة تنظيم الوكالة الأمريكية للتنمية، تم الانتقاص من مهام مركز الديمقراطية والحكم في تحويله إلى مكتب Center to an Office وهو ما يعد تغيرًا هائلاً، وإن كان علامة على غياب التزام رفيع المستوى لتعزيز أجندة الديمقراطية داخل الوكالة. وفي عام 2006، تم التخلي عن هذا المكتب لرغبة الإدارة الأمريكية آنذاك لوضع الوكالة بالكامل تحت إشراف وزارة الخارجية، وهو ما عرقل من قدرة الوكالة على الإسهام في قضايا الديمقراطية والحكم خلال عمليات صنع السياسات.
دور الوكالة في الترويج إلى الديمقراطية
أشارت الدراسة إلى أن نشاط الوكالة الأمريكية لتعزيز الديمقراطية والحكم يُغطي نطاقًَََََا واسعًا. وأن هذه المساعدات تخصص لأربعة مجالات- أولا: سيادة القانون، وذلك من خلال العمل على زيادة ديمقراطية السلطة القانونية، وتوفير خدمة العدالة، ثانيًا: نظم الحكم، من خلال تعزيز مكافحة الفساد، والحكم الديمقراطي لقطاع الأمن، واللامركزية، وتعزيز الأداء التشريعي، وتحسين أداء القطاع العام. ثالثًا: المجتمع المدني، والذي يتم من خلاله تعبئة الجماهير من أجل الإصلاح، وتعزيز الثقافة السياسية الديمقراطية، وتطوير وسائل الإعلام، والحركات العمالية الديمقراطية، وخلق بيئة قانونية مواتية لتنمية المجتمع المدني. وأخيرًا، الانتخابات والعملية السياسية، حيث تدعم الانتخابات الحرة والنزيهة، وديمقراطية الأحزاب السياسية.
وفي هذا الإطار، أشارت الدراسة إلى أن الوكالة الأمريكية للتنمية توزع مساعدات الديمقراطية والحكم في جميع أنحاء العالم، حيث تصل حاليًا إلى أكثر من 80 دولة. وهي تتبع نمط توزيع المساعدات الخارجية الأمريكية عمومًا. ومن ثم يحصل عدد قليل من الدول التي لها أهمية استراتيجية، مثل: العراق، وباكستان، وأفغانستان، والسودان، ومصر على مبالغ كبيرة من هذه المساعدات، في حين أن معظم الدول الأخرى تحصل على مبالغ متواضعة نسبيًا أقل من 5 ملايين دولار في السنة.
تصاعد الانتقادات الموجهة إلى عمل الوكالة
أكدت الدراسة على أن الوكالة الأمريكية للتنمية فاعل رئيس في مجال دعم الديمقراطية، حيث عملت في هذا المجال قبل معظم وكالات المعونة الأخرى، وهو ما جعل لها خبرة واسعة في هذا العمل، وكان لها تأثير في تشجيع الجهات المانحة الأخرى. ورغم ذلك هناك آراء سلبية للملامح الأساسية لعمل الوكالة الأمريكية للتنمية في برنامجها الخاص بالديمقراطية والحكم الذي يعاني بشدة من عدم المرونة، والبطء، والبيروقراطية المفرطة. كما يفتقد إلى الابتكار، والتوافق أكثر مع مطالب واشنطن من الواقع، ومن ثم تميل إلى دول لديها وفرة بالفعل من مصادر المعونات بدلاً من مناطق أخرى متعطشة للحصول على المساعدات.
وأشارت الدراسة إلى أن تدهور الوكالة الأمريكية للتنمية جاء نتيجة لسلسلة متشابكة من الأسباب. منها علاقتها غير المثمرة مع الكونجرس الذي يقيد عملها خلال تخصيصه للميزانية، وممارسات إعداد التقارير المرهقة، علاوة على عدم الثقة المتبادل بينهما. ناهيك عن علاقتها غير المستقرة مع وزارة الخارجية، والتي غالبًا ما تشهد توترًا. كذلك، عدم وجود سياسة رسمية للتنمية واضحة ومستقرة، فعلى العكس من ذلك هناك تغير في الأولويات وغالبًا ما يفرض من خارج الوكالة. فضلا عن ضعف القيادة. إلى جانب أن البيئة التشريعية للمساعدات الخارجية قديمة، فقد استمرت 48 عامًا وهي تتألف من القانون الأصلي وما طرأ عليه من تعديلات متعددة، غالبها ما يكون متداخلاً أو متناقضًا. كما أن متطلبات ربط المعونة تتطلب أن تنفق أموال المعونة على السلع والخدمات الأمريكية وهو ما يقلل من فعالية أثرها. ويضاف إلى ذلك الاعتبارات السياسية التي اهتمت بها الإدارة الأمريكية عند تقديمها للمساعدات والتي كانت مكافأةً على الولاء الاستراتيجي، وليس بغرض التنمية.
أمراض تعاني منها الوكالة
تحدثت الدراسة عن ثلاث مسائل ذات أهمية خاصة داخل الوكالة الأمريكية للتنمية تعاني منها. فأشارت بدايةً إلى البيروقراطية، وهو مفهوم يستخدم هنا اختزالاً للقواعد واللوائح والإجراءات التي تدعم برامج الوكالة. أيضًا العوامل الخارجية والدور المهيمن للأطراف الخارجية في كل مرحلة من مراحل عمل الوكالة. حيث إنه بالنسبة لمعظم المشروعات، تنحصر مهمة الوكالة الأمريكية للتنمية في إعطاء المنظمة الأمريكية تصميم المشروع. ثم تستأجر منظمة أمريكية أخرى لتنفيذ المشروع . وفي نهاية المشروع، فإنه يتم تأجير منظمة أمريكية أخرى لتقييم المشروع. وعادة ما تعمل المنظمات الأمريكية التي تنفذ مع الجهات المحلية المختلفة. إلى أنه هناك مساحة كبيرة للسيطرة خلال عملية المساعدة من الجانب الأمريكي. وأثارت الدراسة في هذا الصدد إلى نقطة مهمة مفادها: إن العاملين في الوكالة كثيرًا ما يتحدثون إلى أنفسهم بصيغة "نحن"، "أهدافنا"، و"نجاحاتنا"، وليس للأشخاص في الدول المقصودة من المساعدات.
المسألة الأخيرة: إن معظم المنظمات تقاوم دمج العمل السياسي، بشكل سلبي وهو ما يعود إلى عدد من الأسباب، هي:
أولاً: إن المساعدات السياسية هي مجال غير مألوف، ويتطلب خبرات جديدة.
ثانيًا، عديد من أنصار التنمية التقليديين لا يزالون غير مقتنعين بأن مكاسب الديمقراطية ستسهم بالضرورة في التنمية الاقتصادية الاجتماعية، والتي يعتبرونها هدفهم الأساسي. ومن ثم فهم لا يرغبون في توسيع تعريف التنمية بإدماج عناصر سياسية مثل الحرية، إلى جانب العناصر الاجتماعية والاقتصادية المستقرة.
ثالثًا، الخوف من الانخراط في المسائل السياسية الحساسة التي ستزعج الحكومات المعنية، مما قد يعرض علاقاتها مع حكومات تلك الدول إلى الخطر.
إصلاحات ضرورية
ركزت الدراسة على ضرورة عمل كل من إدارة أوباما والكونجرس على معالجة نقاط ضعف الوكالة الأمريكية للتنمية في عملها الخاص بالديمقراطية والحكم. واقترحت في ذلك عددًا من المحاور.
أولاً: القضاء على البيروقراطية، وذلك من خلال خفض مستويات الإدارة والإشراف بين مقر الوكالة في واشنطن والبعثات الميدانية للوكالة التي تعيق تنفيذ مهامها. والحد من الوقت المهدر في إرسال التقارير التي تمتص كثيرًا من وقت تنفيذ البرنامج. وتخفيف القيود التي تجعل من الصعوبة ـ للغاية ـ على مسئولي الوكالة عقد اجتماعات أو محادثات تتعلق مباشرة بتنفيذ المشروعات مع أي شخص من منظمة تنفيذية أو شريكة. إلى جانب تحسين عملية التقييم من خلال توسيع قدرات مكتب الديمقراطية والحكم في إجراء تقييمات وبحوث وتدريبات.
وأكدت الدراسة في هذا الصدد على أن القضاء على البيروقراطية يأتي فقط في حال كانت قيادة الوكالة قررت جعلها على مقدمة أجندتها، وكانت قادرة على تحقيق شراكة مثمرة مع الكونجرس في هذا الصدد. وهو من الصعب لأن كبار قادة الوكالة بطبيعة الحال يميلون إلى التركيز على مسائل رفيعة المستوى، مثل الحفاظ على الميزانية، أو زيادتها. وترتيب الأولويات الاستراتيجية للوكالة، إلى جانب أن التخلص من البيروقراطية قد يعرضه للانتقاد بزيادة إمكانية التبذير والاحتيال.
ثانيًا: الحد من العوامل الخارجية وزيادة الملكية المحلية، وهو ما لا يعني بالضرورة تحويل أموال المساعدات مباشرة إلى المنظمات والأفراد داخل الدول المستفيدة من المساعدات. فمنظمات الولايات المتحدة غالبًا ما تلعب دورًا مفيدًا في تنفيذ الديمقراطية والحكم. وهو ما يرجع لخبرتهم الواسعة، سواء في تطوير الأحزاب السياسية في مجال الدعوة إلى حقوق الإنسان، وديمقراطية التعليم المدني، أم غيرها من التحديات التي تواجه الديمقراطية. كما أن لديها خبرة في رعاية المنظمات المحلية أو النشطاء الذين يعملون على قضايا الديمقراطية والحكم. والمساعدة في زيادة قدراتهم وتمكينهم. إضافة إلى ذلك، وجود منظمات أمريكية تنفيذية أو شريكة بين الوكالة والبلد المستفيد من المساعدات يحد من الحساسية السياسية لصورة حكومة الولايات المتحدة.
ثالثًا: تعزيز أهمية الديمقراطية والحكم في عمل الوكالة، وهو ما يعني ضمان وضعها على الأجندة الرئيسة للوكالة، ودمج هذه القيم، والأفكار في المجالات التقليدية للمساعدة الإنمائية. وهنا تشير الدراسة إلى أن نقطة الانطلاق للقيادة في كلا الأمرين من أعلى. وهو ما يتم من خلال الإدراك بوجود مصلحة واضحة في ذلك. والالتزام بالديمقراطية والحكم من جانب مسئولي الوكالة الأمريكية للتنمية. أيضًا وجود اتصالات منتظمة بشأن تلك المصلحة والالتزام بها خلال جميع صفوف الوكالة. من ناحية أخرى، يمكن توجيه نشرات إلى الجماهير في الخطابات الرئيسة والبيانات الأخرى حول هذه المصلحة. والانخراط أيضًا في قضايا الديمقراطية والحكم من قبل كبار فريق السياسة المسئول. وإعداد وثائق السياسة العامة التي تحدد استراتيجية الوكالة الجارية، والنهج والمبادئ الديمقراطية، وعمل الحكومة.
وفي هذا الإطار، اقترحت الدراسة أن يتم توسيع مكتب الديمقراطية والحكم حتى يتمكن من نشر الخبرة التقنية حول قضايا الديمقراطية والحكم. ولجعل مثل هذا التوسع ممكنًا ينبغي زيادة الميزانية. وفي هذا الصدد أشارت إلى أنه يُجرى حاليًا النظر في زيادتها من 12.5 مليون دولار إلى 20 مليون دولار.
من ناحية أخرى، أكدت الدراسة على أهمية تعزيز الوكالة للروابط والعلاقات مع الجهات النشطة، بما في ذلك سائر وكالات المعونة الثنائية، والمنظمات الدولية، والمؤسسات الخاصة. ويمكن أن تشمل هذه العلاقات عقد حلقات عمل مشتركة، وتبادل أفراد، و المشاركة في التدريبات. وهو الأمر الذي سيساعد على المدى الطويل في تطوير القدرات الداخلية للوكالة.