ما بعد الفكر الجهادي و حتمية التحول الديمقراطي
نشر المقدم عبود الزمر– ضابط المخابرات الحربية السابق الذي صار قيادياً في الحركة الجهادية المصرية – كتاباً بعنوان "البديل الثالث: ما بين الاستبداد والاستسلام" في أغسطس/آب 2009. و الكتاب يحلل الأسباب التي أدت إلى انتهاج السلوك الراديكالي العنيف للجماعات الجهادية، و كذلك يصف سبل إنهاء العنف السياسي في البلاد ذات الأغلبية المسلمة. بالإضافة لذلك يؤكد الزمر على ضرورة المشاركة في الانتخابات و التحالف السياسي مع المخالف في الأيديولوجية.
الكتاب حلقة من سلسلة تطورات يمكن تسميتها بالموجة الثانية للديراديكالية الإسلاموية الحديثة (التحول من السلوك العنيف والأيديولوجية الداعمة له إلى اللاعنف سلوكاً و فكراً و تنظيماً). بدأت الموجة الأولى لهذه التحولات قيادة جماعة "الإخوان المسلمين" بتأليفها كتاب "دعاه لا قضاه" في عام 1969، وذلك أثناء محاولة هذه القيادة لإنهاء السلوك العنيف والفكر التكفيري داخل صفوف تنظيمها. "الجماعة الإسلامية" المصرية بدأت الموجة الثانية للديراديكالية في صيف 1997. ومؤخراً أنتجت قيادة "الجماعة" أكثر من 25 مؤلفاٌ بهدف سحب بساط الشرعية من تحت أقدام المواجهات المسلحة مع الدولة. توالت المراجعات الفكرية بعد ذلك، فتراجعت تنظيمات كاملة عن الفكر الجهادي مثل "الجماعة الإسلامية المقاتلة" في ليبيا أو فصائل كبيرة داخل تنظيمات عنيفة كحالة جماعة "الجهاد" المصرية.
تحتوي كتب المراجعات – أو أدبيات الديراديكالية الأيديولجية –على نقدٍ ونفيِ لشرعية العنف السياسي أو ما يسمى "فقه العنف" (الآراء الفقهية والأيديولوجية التي تؤيد و تُشَرعِن المواجهة المسلحة مع أئظمة الحكم) في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة على وجه الخصوص. معظم الأدلة الفقهية والأيديولوجية والعقلانية المقدمة في كتب المراجعات ليست بجديدة. فكما يذكر أحد القادة السابقين للجناح العسكري التابع للجماعة الإسلامية المصرية: "اختلف الأمر عندما سمعنا الأدلة [الفقهية] مباشرة من الشيوخ [قادة "الجماعة"]... سمعنا هذا الكلام من قبل من السلفيين ومن الأزهر، ولكننا رفضناه... قبلنا الأدلة من الشيوخ لأننا نعرفهم ونعرف تاريخهم".
المراجعات الفكرية للجهاديين السابقين – وتشمل أكثر من ثلاثين كتاباً – تنتقد أركان الفكر الجهادي، والتي يمكن تلخيصها في ثماني مسائل فقهية وفلسفية كبيرة وهي الحاكمية، والردة، والقتال لأجل الدولة الإسلامية، وجهاد الدفع، وأحكام الديار، وحتمية المواجهة المسلحة، واستحالة التغيير بغير قتال، ومسألة "الصليبيين الجدد".
ولأجل تفكيك خلاصات الفكر الجهادي في المسائل المذكورة آنفاً احتوت أدبيات "ما بعد الجهادية" على تغيّر جذري في طرق الاستدلال الفقهي، إذ إن معظم الأفكار الجهادية تستند إلى قاعدة أن القراءة الحرفية للنص الشرعي تعلو فوق أية مصلحة مادية أو أية حسابات عقلانية. بعبارةٍ أخرى "النص فوق المصلحة"، والمؤمنون عليهم اتباع الأوامر الشرعية حرفياً وترك النتائج المترتبة على ذلك لله وحده. غالباً ما تؤدي هذه القاعدة إلى مواجهات مسلحة بين قوى غير متكافئة غالباً ما يكون الجهاديون هم الطرف الأضعف فيها.
أما في أدبيات "ما بعد الجهادية" فهناك قاعدة جامعة لكل الاستدلالات فيها، و هي أن المصلحة هي التي تحدد تفسير النص الشرعي. فإذا أدت المواجهة المسلحة – أو أي سلوك آخر – إلى نتائج سلبية فيجب تحريمها والكف عن ممارستها. بعبارةٍ أخرى ما يجمع هذه الأدبيات هو "البراجماتية الثيولوجية": براجماتية مُشَرعَنة فقهياً، وهي تندرج تحت عدة مسميات منها "فقه المصالح والمفاسد" و"فقه المقاصد" و"فقه الأولويات" وغيرها. هذه الطرق في الاستدلال والفتاوى المترتبة عليها ليست بجديدة على الفقه السياسي السني، و بعضها يعود إلى أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن ميلادي ، بعد سلسلةٍ من الثورات و المواجهات الفاشلة مع الأمويين أدت إلى سفك الكثير من دماء المسلمين ولم تستثن حتى حفيد النبي.
كتاب الزمر الأخير كان واحداً من أدبيات "ما بعد الجهادية" التي تعرضت إلى مسألة التعددية والمشاركة السياسية بصورةٍ مباشرة. وفي هذا الموضوع خصوصاً تتضارب رسائل الجهاديين السابقين – أحياناً من نفس التنظيم. فمثلاً ينصح منظّر" الجماعة الإسلامية" – ناجح إبراهيم – الإسلامويين بالابتعاد عن السياسة و التركيز على "الدعوة". أما رئيس مجلس شورى "الجماعة" – كرم زهدي – فقد أعلن من قبل أن رفض "الجماعة" الحالي لمسألة الانتخابات سيُنظر فيه و قد يتغير إذا كانت هناك مصلحة للجماعة. رسائل "المقاتلة" الليبية الجديدة وبعض مراجعات الشيوخ السعوديين ليست بأقل تضارباً وغموضاً. وربما يعود هذا الغموض والتضارب في تناول مسألة الديمقراطية إلى خشية رد فعل الأنظمة السلطوية.
و في كل الأحوال تبرهن هذه التطورات الفكرية على أنه بالرغم من استمرارية أفكار وعنف الجهاديين، إلا أن حقبة "ما بعد الجهادية" قد بدأت، ومِثلْ الفكر الجهادي "ما بعد الجهادية" لها سمات و أنماط تميزها. فعلى المستوى الأيديولوجي يسحب هذا الفكر الشرعية من العنف السياسي (إلا من الدولة) و يتبنى بقوة البراجماتية المشرعنة فقهياً. أما على المستوى السلوكي فانتقاد الإسلامويين الذين ما زالوا يمارسون العنف السياسي هو سمة أخرى من سمات هذا الفكر. وعلى المستوى التنظيمي، حل الأجنحة المسلحة و الوحدات السرية لتلك التنظيمات هو سمة ثالثة ل"ما بعد الجهادية".
وبينما معظم ما كُتب في أدبيات الديراديكالية و ما بعد الجهادية لا يتبنى موقفاً واضحاً من قضية الديمقراطية، إلا أن قبول "الآخر" و الاعتدال في الخطاب والسلوك والمشاركة الانتخابية ربما تكون الخيارات الوحيدة لهذه التيارات إذا أرادت الحفاظ على طبيعتها السياسية. بعبارةٍ أخرى إذا كانت "الجهادية" قد تبنّت حتمية المواجهة، فربما تتبنى "ما بعد الجهادية" حتمية الدمقرطة.
عمر عاشور أستاذ محاضر في العلوم السياسية في جامعة إكستر البريطانية، و مؤلف كتاب "ديراديكالية الجهاديين: تحولات الجماعات الإسلامية المسلحة".