ما الفرق بين ملكات الأمس ورؤساء اليوم؟....
ما الفرق بين ملكات الأمس ورؤساء اليوم؟....
الشرق الاوسط...د. سعاد كريم....
الزمن تغير ونحن تغيرنا معه، لكن أسوأ ما في الأمر أن نتمنى لو يعود الزمان بنا إلى الوراء؛ إلى أيام كنا نشهد فيها عصوراً ذهبية، إلا أننا نعيش حلم اليقظة هذه الأيام، ونعود بذاكرتنا إلى أيام شهدت ازدهاراً وبحبوحة وعيشاً رغيداً وسلاماً، رغم الحروب التي كانت تنشب من حين لآخر؛ أهلية كانت أم عالمية.
أتساءل أحياناً: ماذا يجري في المملكة المتحدة؟! هل يُعقَل أن يتولى منصب رئيس الوزراء 3 رؤساء خلال سنة واحدة (2022): بوريس جونسون، وليز تراس، وريشي سوناك؟! أين الرؤساء السابقون الذين كانت لهم مواقف وسياسات حكيمة ساهمت في رفع اسم المملكة عالياً، كالرئيس وينستون تشرشل، على سبيل المثال، الذي قاد إنجلترا في الحرب العالمية الثانية، وغيّر تاريخ العالم، رغم إخفاقاته أحياناً؟! أين بريطانيا العظمى التي سيطرت على ربع الكرة الأرضية تقريباً لتصبح أقوى قوة في العالم على اليابسة وفي البحر بعد هزيمة «الأرمادا» الإسبانية، حتى أضحت إمبراطورية عظمى لم تغب عنها الشمس في عهد الملكة فيكتوريا؟! مع أن هذا لا يعني أنها كانت محقة في استعمارها.
تساؤلات ونقاشات جرت وتجري في البرلمان الإنجليزي حول استمرار الملكية وجدواها في بريطانيا، منذ ما قبل وما بعد عهد الملكة إليزابيث الأولى، كما حدث في عهد الملكة فيكتوريا، وكذلك في عهد الملكة إليزابيث الثانية الذي تم فيه التوافق للحفاظ على الملكية، لما لها من عراقة وأهمية من الوجهات السياحية والاقتصادية والثقافية وغيرها، رغم ما تفرضه من تكاليف باهظة على إنجلترا وشعبها؛ فهل ستبقى الملكية قائمة في عهد الملك تشارلز الثالث؟!
سأل رئيس الوزراء السابق، السير أنطوني إيدن، رئيس الوزراء الأسبق، السير وينستون تشرشل، ذات مرة: «أيّ عهد من التاريخ تفضّل أن تعيش فيه لو أُعطيتَ الخيار»؟ أجاب تشرشل أنه يفضل عهد الملكة آن، ثم أضاف إيدن: «لكننا نحن الاثنان جذبنا عهد الملكة إليزابيث الأولى».
ملكات تولين الحكم؛ كل حكمت على طريقتها، فدخلن بعهد، وخرجنا بعصر ذهبي سُمي باسمهن: «العصر الإليزابيثي»، و«العصر الفيكتوري»؛ فهل سيكون عهد الملكة إليزابيث الثانية «العصر الإليزابيثي الثاني»؟!
أيقونات ثلاث... نساء حكمن فأثبتن للعالم على مر العصور أنهن قادرات، ويملكن الرؤية والقوة والشجاعة والحكمة لإدارة بلد أصبح بعد التوسع بلاداً، رغم رفضٍ سياسي وشعبي للملكية، وفي ظل دسائس ومؤامرات تُحاك أحياناً داخل القصر وخارجه، كما حصل في عهدَي الملكتين إليزابيث الأولى وفيكتوريا.
ملكات ثلاث نجحن في حكمهن، فرفعن اسم وشأن المملكة لتصبح سيدة البرّ والأكثر قوة بين الدول الأوروبية، وسيدة البحر، بعد هزيمة «الأرمادا» الإسبانية في عهد الملكة إليزابيث الأولى، «وإمبراطورية بريطانية عظمى» واسعة الحدود تشمل ربع الكرة الأرضية تقريباً؛ من أستراليا، إلى كندا، إلى نيوزيلندا، إلى أفريقيا، إلى الهند التي أصبحت الملكة إمبراطورتها وغيرها في عهد الملكة فيكتوريا.
عند اعتلاء العرش، لم يكن الوضع في المملكة مستقراً خلال العهود الثلاثة للملكات الثلاث؛ استطعن بحكمتهن وذكائهن وثقافتهن أن يحكمن المملكة بمحبة وإخلاص، ليسلّمن الخلف مملكة قوية مزدهرة غنية مستقرة سياسياً ودينياً، كما حدث في عهد إليزابيث الأولى التي قامت بتسوية دينية بين البروتستانت والكاثوليك، وذلك بترك حرية اختيار الدين للشعب، ضامنة بذلك علاقة ودية مع البرلمان، وتجنّب فتنة دينية وشيكة.
شهدت المملكة في عهودهن تطوراً اجتماعياً وازدهاراً اقتصادياً وتقدماً علمياً وتكنولوجياً وتحوّلا ثقافياً وفنياً (في عصر نهضة) وتطوراً صناعياً (في عصر ثورة صناعية) وحرية تجارية شقّت طريقها في أسفار بحرية بحثاً عن أسواق جديدة خارج المملكة.
لم يكن صعود العرش بالنسبة للملكات الثلاث سهلاً، في زمن لم يرحّب بالملكية، حيث ضاق ذرع الشعب والسياسيين بهم منادين بالجمهورية؛ فإليزابيث الأولى، ابنة الملك هنري الثامن الذي تحدّى البابا وانفصل عن الكنيسة في روما ليؤسس كنيسته الإنجليزية ويتزوج زوجته الثانية (آن بولين)، وينجب ابنة غير شرعية، بعدما اعتُبر زواجه غير شرعي، لأن البابا لم يوافق على طلاقه من زوجته الأولى، وصعود أنثى العرش لم يكن مألوفاً آنذاك. أضف إلى ذلك تهديد أختها غير الشقيقة، الملكة ماري، وسجنها لها، وكانت على وشك قتلها؛ ما جعل الوصول إلى العرش صعب المنال. أما الملكة فيكتوريا، فلم يكن صعودها العرش أفضل، بسبب وفاة والدها الباكرة، وفرض «نظام كينزغتون» الصارم عليها من قِبَل حليف والدتها، السير جون كونروي، للسيطرة عليها، وسوء حكم وتصرفات وإسراف وتبذير أسلافها وأبناء أعمامها، ما جعل الشعب يتململ ويطالب باستبدال الملكية. بينما لم يؤل العرش إلى إليزابيث الثانية إلا صدفة، بعد تنازل عمها الأمير ألبرت عن العرش لأخيه الملك جورج السادس، ومن بعده لإليزابيث الثانية.
اختلف الحكم في بريطانيا من عهد إلى آخر؛ ففي عهد الملكتين إليزابيث الأولى (1533 - 1603) وفيكتوريا (1819 - 1901) كان الحكم مطلقاً، ويعود للملكة القرار الأخير، بينما في عهد الملكة إليزابيث الثانية (1926 - 2022) أصبحت الملكية دستورية تمثيلية رمزية، مع أن الملكة تعيّن رئيس الوزراء بالموافقة مع البرلمان. استطاعت «الملكة العذراء» إليزابيث الأولى التي كرّست حياتها لبلدها ورعاياها، والتي تزوجت بلدها ولم تنجب وريثاً لتكون آخر حاكم من سلالة تيودور، أن تحكم المملكة لمدة طويلة دامت 45 عاماً، حيث عمّ الأمن والسلام والاستقرار، وانتقلت بإنجلترا من مملكة منهكة ضعيفة ومثقلة بالديون إلى مملكة تفوّقت في قوتها على جميع الدول الأوروبية، فأصبحت إنجلترا سيدة البحر والبر؛ فهي لم توجّه اهتمامها نحو السياسة والدبلوماسية والصراع الديني فحسب، بل وضعت نصب عينيها شؤوناً أخرى، كالفنون والآداب والثقافة والموسيقى، وهي المثقفة والموسيقية، وشاهدت مسرحيات شكسبير (شاعر «السوناتا») التي كان تُعرَض في قصرها خصيصاً لها.
انتقلت الملكة فيكتوريا بإنجلترا من مملكة إلى إمبراطورية واسعة الحدود، وبسطت هيمنتها على الدول الأوروبية، بعد أن زوّجت أولادها وأحفادها من ملوك أوروبا فلُقّبت بـ«أيقونة أوروبا وجدّتها»، رغم أن هذا كان لفترة وجيزة قبل أن تندلع الحرب ثانية فيما بينهم، خصوصاً الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
حين اعتلت الملكة إليزابيث الثانية (1926 - 2022) العرش كان دورها محصوراً بمهام محدودة، منها تمثيل المملكة في المناسبات الرسمية والاحتفالية، واستقبال رؤساء وقادة العالم، وتعيين رؤساء الوزراء بعد العودة إلى البرلمان وغيرها. استطاعت الملكة بحكمتها وذكائها وثقافتها أن تلعب دوراً كبيراً في تاريخ المملكة على مدى 7 عقود، جاعلة من الملكية دعامة وركناً أساسياً لنهوض البلد في شتى المجالات، بعد أن قامت بخطى جديدة فريدة من نوعها وإصلاحات وتحديث في المالية الملكية، ودعمت العدالة العرقية، وترأست الكنيسة الإنجليزية، وترأست الكومنولث الذي يشمل 16 دولة. ومن أهم إنجازاتها الاجتماعية دعم الأعمال والمؤسسات الخيرية (600 مؤسسة)، خصوصاً «الصليب الأحمر»، وتلك التي تهتم بمرضى السرطان، والاهتمام بالقطاع التربوي وزيارة المدارس، ودوام الملكية وصورتها أمام العالم، خصوصاً بعد زيارتها لمائتي دولة، ومنها آيرلندا الشمالية وأفريقيا، شهدت خلال عهدها استقلال مستعمرات. بعد كل هذه الإنجازات وكثير غيرها، هل يمكن أن نلقّب عهدها «بالعصر الذهبي»؟!
هكذا كان عهد الملكات مثلاً يُحتذى تركن خلاله بصمة دامغة في تاريخ المملكة المتحدة. لكن ماذا يحدث الآن في إنجلترا، مع بطالة وتضخم اقتصادي وهبوط قيمة الباوند الإنجليزي مقابل الدولار الأميركي، وغيرها من المشكلات العديدة؟! والشيء بالشيء يُذكر، ماذا يجري في لبنان؟! أين حكامه ومسؤولوه؟! هل صُمَّت آذانهم وأُقفلت أعينهم!! هل ماتت ضمائرهم وزاد جشعهم!
لبنان، هذا البلد الذي بالكاد يُرى نقطة على الخريطة، عجز حكامه ومسؤولوه عن حسن إدارته، فأوصلوه من عصر ذهبي في ستيناته وأوائل سبعيناته إلى عصر جهنمي أو حتى قعر عصر جهنمي. لا ندري؛ هل نحن نعيش فيه الآخرة قبل أوانها؟! الوضع في لبنان لم يعد يُطاق. كل مؤسساته وقطاعاته؛ أكانت حكومية أم خاصة، تشتكي، وشعبه يبكي مع ارتفاع كل دولار أميركي يحلق صعوداً، ولقمة عيش تهرول هبوطاً. ويُشاع أن الدولار الأميركي سيوازي مائة ألف ليرة لبنانية في بلد رمال متحركة عجزت معظم دول العالم التي تحب لبنان عن القيام بأي شيء نحوه، ويُقال لمسؤوليه: إن لم تساعدوا بلدكم، فلن نستطيع أن نساعدكم.
اللبناني يهذي ويشتكي؛ لكن لمن يشتكي؟! الدواء جزء كبير منه مفقود، ومعظم المدارس أبوابها مقفلة، ومعظم المستشفيات لا تستقبل إلا مالكي الأموال، أو (على الأصح) مالكي الدولار الفريش، والكهرباء مقطوعة معظم الوقت، والطاقة لا قدرة على دفع ثمنها الذي يرتفع مرتين أو أكثر في اليوم الواحد، أضف إليها الإنترنت و«تشريج» الهاتف الجوال اللذين باتت تكلفتهما توازي راتب موظف حد أدنى تقريباً. لكن المشكلة الكبرى ثمن الغذاء والخبز الذي يجري تغييره على مدار الساعة في المتاجر و«السوبرماركت». كثيراً ما يقضّ مضاجعنا تساؤل: كيف يعيش رب أسرة بلا عمل؛ أكان ترك عمله أو صُرف منه أو هو أصلاً بلا عمل، ولديه زوجة وثلاثة أولاد أو أربعة أو أكثر؟ كيف تعيش عائلة بلا دخل لديها، في ظل هذا الغلاء الفاحش؟ هل يُعقل أن يكون قوتهم ربطة خبز يومياً، إن كان من المستطاع دفع ثمنها؟! كيف يعيشون بلا كهرباء ولا ماء، لأن الماء لا يأتي إلا بالقطّارة أحياناً كثيرة وبلا دواء ولا استشفاء و..... و... و!!
فساد مستشرٍ. لا أحد يراقب أو يحاسب. متى سينتهي هذا الكابوس الذي يعيش فيه المواطن اللبناني الذي بات يردد دائماً: «لا حول ولا قوة إلا بالله». لكن عاجلاً أم آجلاً سيأتي الفرج إن شاء الله، نأمل أن يكون ذلك قريباً.
تُرى، هل تقوم القائمة ويظهر في بلدنا (لبنان) أو يهبط علينا من السماء رئيس أو رئيسة، لحكم البلد بحكمة ومحبة وإخلاص يشبه حكم الملكات اللواتي أحببن شعبهن، وشعبهن أحبهن؟
ماذا لو أن لبنان لم يشهد الحروب الأهلية عام 1975، والحروب التي تلت، واستمر في عصره الذهبي؛ فكيف كان سيكون وضعه وشكله الآن؟!
* باحثة لبنانية