إعادة خلط الأوراق؟ (II): أوراق سورية الجديدة
الملخص التنفيذي
عادة ما يستحضر ذكر سورية في الأذهان الركود والتصلب؛ وثمة ما يبرر ذلك في بعض الأحيان. إلاّ أن السنوات القليلة الماضية حفلت بالتغييرات. ففي عام 2008، وافقت سورية على الشروع في مفاوضات مع إسرائيل بوساطة تركية، وأقامت علاقات مع الحكومة العراقية بعد أن كانت تصفها لوقت طويل بصنيعة الاحتلال غير الشرعي. وبدأت بتطبيع العلاقات مع لبنان بعد سنوات من مقاومتها مطالباته بالسيادة. كما سرّعت من إصلاحاتها الاقتصادية. غير أن هذه الإصلاحات لا ترقى إلى كونها ثورية، وبعضها فُرّض عليها ولم يكن من اختيارها، ويتسم بالانتهازية أكثر من كونه نتاجاً للتفكير الإصلاحي. رغم ذلك، فبالمعايير السورية، تبقى هذه التغيرات كبيرة، خصوصاً بالمقارنة مع ما كانت عليه في السنوات الأخيرة من تشدد بالغ.
في تقرير مرافق يتضمن نفس التوصيات نشر في 14 كانون الثاني/ديسمبر 2009، حلّلت مجموعة الأزمات العوامل الكامنة وراء هذا التطور الاستراتيجي. أما هنا، فتستكشف المجموعة بالتفصيل آلية، ومدى وحدود هذه التغييرات، إضافة إلى التحديات التي تواجهها إدارة أوباما إذا أرادت أن تستغلها وتعززها. وهذا كل ما تستطيع فعله قبل تحقيق تقدم حقيقي في المفاوضات السورية الإسرائيلية. ولأسباب تتعلق بإسرائيل وسورية والولايات المتحدة، فإن ذلك قد يستغرق وقتاً طويلاً. في هذه الأثناء، ينبغي لواشنطن ودمشق أن تمضيا إلى ما وراء التفاعلات التكتيكية وذلك برفع مستوى انخراطهما وتوسيع أجندته واتخاذ خطوات سريعة للتركيز على الخطوات المشتركة فيما يتعلق بالعراق.
لم تكن تحركات سورية هذه مقدّرة أو محتومة بأي حال من الأحوال؛ فكل منها جاء ليعكس عملية متأنية وحذرة كان النظام خلالها يقيّم بعناية أثر كل خطوة قبل اتخاذ الخطوة التي تليها. وكان اتخاذ كل خطوة ينطوي على تفاعل بين وجهات نظر مختلفة حول أفضل السبل للدفاع عن المصالح الوطنية. غير أن كل تلك الخطوات كانت تؤشر على أن الرئيس بشار الأسد يزداد قوة وحزماًً، رغم أن عليه أن يتعامل مع مراكز قوى متنافسة ورؤى مختلفة، كما تؤشر على تنامي قوة جيل من المقربين الذين دأب الرئيس على وضعهم في مراكز حساسة. في بعض الأحيان كان هناك ارتكاسات تؤشر على أن التحول من درجة كبيرة من التشدد إلى درجة أكثر وضوحاً من البراغماتية يظل عرضة للتغيرات السلبية في المشهد الإقليمي أو للعرقلة من قبل حلفاء سورية، وبالتالي فكل شيء قابل للعكس.
ليس لانتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة أثر يذكر على هذا التطور؛ إذ أن هذه التغيرات بدأت خلال إدارة بوش، عندما كان العديد من السوريين يراهنون على فوز جون ماكّين ولأسباب لا علاقة لها البتة بالولايات المتحدة. رغم ذلك، فإن فوز رجل كان قد وعد بجعل الانخراط دعامة رئيسية في سياسته الخارجية ساعد على تنامي الأمل في أن العلاقات الثنائية ستستأنف على أرضية أكثر صلابة وأن الجانبين قد يجدان سبلاً مشتركة للعمل معاً إزاء السياسات الإقليمية.
لم يتحقق ذلك حتى الآن، ولكل طرف تفسيره لذلك. فسورية مقتنعة أنها اتخذت الخطوات الأولى – في العراق ولبنان بوجه خاص – وأن واشنطن ينبغي أن تقوم بما عليها. توقعت دمشق أن تقوم الإدارة بالعودة عن أجزاء على الأقل من إرث عهد بوش، وإقامة علاقات دبلوماسية طبيعية بتعيين سفير لها في دمشق، وإظهار قدر أكبر من المرونة فيما يتعلق بالعقوبات، والدفع باتجاه استئناف المحادثات الإسرائيلية السورية، وطرح إقامة شراكة فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية حيث ادّعت سورية أنها راغبة بالتعاون. وتقول دمشق إنه دون الحد الأدنى من وجود رؤية مشتركة، فإنها غير مستعدة ببساطة للإذعان لمطالب واشنطن. تشعر دمشق أنه يُطلب منها أن تثبت أهميتها، بدلاً من أن تُعامل كشريك ذا قيمة.
أما الولايات المتحدة فترى نمطاً متكرراً من السلوك السوري، حيث تقوم بوقف بعض الأعمال العدائية وتتوقع أن تكافأ على ذلك، في حين تستمر بالضلوع بأنشطة غير ودّية (مثل السماح لبعض أفراد الجماعات المسلحة بالتسلل إلى العراق أو تسليح حزب الله) والاعتماد على أن يُغض النظر عن ذلك. إضافة إلى ذلك، فإن الإدارة الشابة تعتقد بأن لديها مسائل أكثر إلحاحاً، كما أن عليها التعامل مع كونغرس وحتى حلفاء إقليميين أكثر تشككاً (خصوصاً في لبنان والعراق) وتخشى أن استئناف المسار السوري - الإسرائيلي في وقت توقّف فيه المسار الفلسطيني يخاطر بالقضاء على أية فرصة لدفع الحياة في هذا المسار الأخير.
نتيجة لذلك، كان كل جانب يرى قيمة كبيرة في إشارات حسن النية التي أطلقها وفي نفس الوقت يقلل من قيمة إشارات الطرف الآخر. لقد انخرطت الولايات المتحدة بالفعل، وأرسلت مسؤوليها إلى دمشق، غير أنها لم تصل إلى درجة إطلاق حوار استراتيجي مع سورية يتم من خلاله تبادل وجهات النظر حول مستقبل المنطقة. كما لم تتّبع، فيما يتعلق بالقضية الأكثر إلحاحاً وهي العراق، مقاربة تبدأ من المستويات الدنيا وصولاً إلى المستويات العليا من أجل بناء الثقة والتوصل إلى نتائج ملموسة. بدلاً من ذلك، فإنها ألغت المحادثات الأمنية حول الموضوع حالما قرر رئيس الوزراء العراقي – الذي اتهم سورية بالضلوع في سلسلة مأساوية من التفجيرات – معارضة هذه المحادثات. وفي هذه الأثناء قامت سورية بما تتقنه وهو الانتظار. فقد امتنعت عن التقدم بمقاربة خاصة بها لعملية الانخراط، ناهيك عن التقدم بأية رؤية للمنطقة من شأنها أن تحظى برغبة الولايات المتحدة بالمشاركة.
لم يكن من الواقعي أبداً توقّع أن مجرد الدعوة للشروع في الانخراط ستمحي سنوات من انعدام الثقة، والمفاهيم المتعارضة للمنطقة والتحالفات المتنازعة. ثمة حاجة الآن لعملية مثمرة وليس لنتائج دراماتيكية، لكن حتى ذلك غير متوفر الآن.
لا زال الوقت مبكراً، فالرئيس أوباما لم يستثمر شخصياً في الملف السوري، ولا زال من الممكن إعادة إحياء المسار السوري – الإسرائيلي، وتستمر الولايات المتحدة وسورية في التعبير عن رغبتهما المشتركة في فتح صفحة جديدة. وإذا تعلق الأمر بالمناخات على الأقل، فإن ثمة تحسن ملحوظ في العلاقات الثنائية. إلاّ أن هذه العلاقات ليست على الدرجة التي ينبغي أن تكون عليها ولم يتم استغلال الفرص السانحة لإيصالها إلى هذه الدرجة.
ثمة غيوم محتملة تلبّد الأفق، إذ يمكن للمحكمة الدولية حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري أن تتطور بطريقة من شأنها أن تعقّد بقدر كبير إدارة الملف السوري، وكذلك الأمر بالنسبة لتحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في البرنامج النووي السوري المزعوم. كما يمكن للعنف في العراق أن يُحدث تراجعاً في العلاقات السورية الأميركية في غياب إطار أمني مشترك. ويبقى الوضع على الحدود اللبنانية الإسرائيلية متوتراً، كما أن الأسباب الجوهرية لحرب غزة عام 2008 لم تعالج بعد. ويمكن لمواجهة بشأن الملف النووي الإيراني أن تدفع بالمنطقة في اتجاه خطر يصعب التكهن به.
لا تتمثل توقعات النجاح الواقعية هنا في تحقيق اختراق سريع بين سورية والولايات المتحدة؛ فالعملية في أفضل الأحول تحتاج إلى وقت طويل وينبغي أن تنتظر تغيرات في المنطقة وتحقيق تقدم حقيقي باتجاه السلام بين سورية وإسرائيل. بل إن الاختبار هو ما إذا كان بوسعهما تحريك العلاقة بما يكفي لمنع ومقاومة الأزمات التي لا بد أن تنشأ ودائماً على نحو غير متوقع.
التوصيات
إلى الإدارة الأميركية والحكومة السورية
1. تصميم عملية للانخراط المتبادل تتمحور حول أهداف ملموسة وواقعية؛ وأبرز هذه الأهداف:
أ. احتواء النشاط الإيراني في ساحات جديدة مثل العراق واليمن (بدلاً من العمل على دق إسفين بين دمشق وطهران)؛
ب. العمل على تحقيق المصالحة الوطنية في العراق، وذلك عن طريق الجمع بين النفوذ الأميركي على الحكومة العراقية وقدرة سورية على الوصول إلى الجماعات المسلحة وعناصر النظام السابق؛
ج. تشجيع الحكومة اللبنانية على إعادة التركيز على قضايا الإدارة الداخلية الرشيدة واحتواء مخاطر نشوب مواجهة جديدة بين حزب الله وإسرائيل؛
د. تضافر الجهود السورية لضبط حماس وإعادة توحيد غزة والضفة الغربية مع تبني الولايات المتحدة لمقاربة أكثر ترحيباً بالمصالحة الداخلية الفلسطينية.
إلى الإدارة الأميركية
2. إنشاء خط تواصل فعّال بواسطة ما يلي:
أ. إرسال سفير إلى دمشق، يكون جزءاً من مهمته بناء صلة مباشرة مع الرئيس بشار الأسد؛
ب. تسمية مسؤول رفيع المستوى للانخراط في حوار استراتيجي يهدف إلى تبادل الرؤى حول المنطقة ووضع مخطط للعلاقات الثنائية المستقبلية.
3. إعادة ضبط الجهود الأميركية فيما يتعلق بعملية السلام، وذلك من خلال:
أ. إظهار الاهتمام بالمسارين الفلسطيني والسوري على حد سواء؛
ب. العمل على تحسين العلاقات الإسرائيلية - التركية كخطوة باتجاه استئناف المفاوضات الإسرائيلية - السورية تحت رعاية أميركية – تركية مشتركة؛
ج. إيضاح أنه، وانسجاماً مع المفاوضات الإسرائيلية – السورية التي جرت في الماضي، فإن أي اتفاق نهائي ينبغي أن ينص على الانسحاب الإسرائيلي الكامل من مرتفعات الجولان، ووضع ترتيبات أمنية صارمة وإقامة علاقات ثنائية سلمية طبيعية.
4. إعادة إطلاق المباحثات الأمنية المتعلقة بالعراق، بدءاً بقضايا الحدود، سواء فوراً أو بعد الانتخابات البرلمانية في العراق.
5. تخفيف تطبيق العقوبات ضد سورية وذلك بتوحيد إجراءات الترخيص وتخفيف القيود على أساس من الاعتبارات الإنسانية والسلامة العامة.
إلى الحكومة السورية
6. تسهيل وصول الدبلوماسيين الأميركيين للمسؤولين المعنيين لدى وصول السفير الجديد.
7. الاستفادة من آليات التعاون الأمني القائم مع بلدان مثل بريطانيا وفرنسا لإظهار نتائج ملموسة بانتظار الشروع في محادثات مباشرة مع الولايات المتحدة.
8. المبادرة إلى توضيح رؤيتها للمنطقة في المحادثات مع المسؤولين الأميركيين.
9. تعزيز العلاقات السورية اللبنانية المتحسنة وذلك بترسيم الحدود وتقديم أية معلومات متوفرة حول "المفقودين" اللبنانيين.
10. تحديد المساهمات الإيجابية الفورية التي يمكن لسورية أن تقوم بها في العراق وفلسطين ولبنان، وما تتوقعه في المقابل من الولايات المتحدة.
دمشق/واشنطن/بروكسل، 16 كانون الأول/ديسمبر 2009
Click here to view the full report as a PDF file in A4 format.
For more information about viewing PDF documents, please click here.
This document is also available in MS-Word format